اخبار العراق الان

سيرة مدينة عراقية «بلدة في علبة»

سيرة مدينة عراقية «بلدة في علبة»
سيرة مدينة عراقية «بلدة في علبة»

2016-03-30 00:00:00 - المصدر: وسا


وسا. باقر صاحب

تعتمد رواية «بلدة في علبة» الروي بصوت الراوي، الذي يشارك في الوقت ذاته بصناعة الحدث المسرود، الروائي حامد فاضل، يضعنا منذ الأسطر الأولى في الرواية عن حال مدينة عراقية هي السماوة، فهو ابن المدينة، في تسعينيات القرن الماضي، حيث الحصار وما فعل الناس في المدينة، كما فعل العراقيون في بقية المدن، من أجل مواجهة شظف 

العيش. 
يتحدث الراوي بصيغة الجمع، في الصفحات الأول عن مشهد عام، الأغلبية المحاصرة وسبلها في مواجهته، إذ يراد منهم الاستسلام والتصفيق والهتاف، لمن أسماهم الراوي أولي الأمر ويقصد رجال السلطة الحاكمة 
آنذاك. 
كان المشهد العام عتبة للتحول من ضمير الـ (نحن) إلى الـ(أنا)، بعد أن اشترك الغالبية في التصرف نفسه، ألا وهو بيع مقتنياتهم المنزلية، سموها ترفا لإقناع ضمائرهم بأن لا سبيل سوى ذلك، يبدأ التحول للأنا منذ روي حادثة اعتقال والد الراوي المشارك، وهو مصور فوتوغرافي، كانت إحدى الصور المعبرة عن السخط من النظام آنذاك هي سبب الاعتقال، لعشر سنوات، مات في منتصفها.. حين يعثر الراوي خلف صورة الأب، في غرفته المقفلة التي فتحت أخيرا، على علبة، فتتفتح لديه قائمة من التصورات عما هو كنز العلبة، وبتعددها يتشكل أفق التوقع لدى القارئ، الذي قد تسرع بديهته إلى مناغمة توقعه مع عنوان ما يقرأه «بلدة في علبة»، وسيكتشف القارئ أن دواخل العلبة عبارة عن صور أولها صورة لبقايا سور الوركاء، وكأن إحدى مفردات كنز الأب المخفي، الذي يريد أن يريه لابنه الراوي هو آثار الوركاء، وهو كنز وإرث جماعي للمدينة خاصة والعراق عامة.
يستحضر الراوي صعود مدينة السماوة من أغوار التاريخ، بتوصيفات سرد شعرية، مستعينا بمؤرخي المدينة للحديث عن ماضيها وحاضرها وهما الناصح والغياث، وهو أسلوب تشويقي للخروج من نمطية الراوي الواحد إلى عدة رواة، الحكاءان يتبادلان الحديث بصعود نجم مدينة الوركاء وأفولها، يقابله حديث عن قصة نشوء مدينة السماوة في عصر الخلافة الإسلامية. والحديث المستمر بالربط بين المدينتين هو للإيحاء بالترابط التاريخي بينهما. ومن ثم يدخل على خط الروي، راو ثالث أسماه الشيخ النوري، الذي يسترسل في سرد حفريات تاريخية لتأسيس مدينة السماوة، موقعها، اسمها. وهناك الجد، جد الراوي، إذ يصفه الراوي بأنه (زير حكايات)، وطارمة بيته في القشلة (الصوب الصغير): (خيمة حكايات مأهولة لمخلوقات المخيال الساحر): 49
ما يمكن قوله ان هذا الكتاب محتشد بطاقم من الحكائين، يحاججون في دقة المعلومات التاريخية، وصحة وقائع الحكايات، بحسب مخطط سيري يذكره الراوي كما يلي: «غرفة، علبة، شيخ، حكايات، مدينة، صور»: 161، ويردفه بمخطط تعريفي للمفردات ذاتها: «الغرفة تراث، العلبة ذاكرة، الشيخ تاريخ، الحكايات أحداث، البلدة صور، الصور بالأسود والأبيض»، ذلك المخطط يعد الرابط الرئيس بين فصول الرواية العشرين. فالتوغل في قراءة الرواية، يكشف عن أنها سيرة روائية لمدينة السماوة، بالترابط مع سيرة الراوي الحياتية، التي يقدمها في أجزاء غير مترابطة، أي ليست سيرة تتابعية بالنسبة للمدينة وكذلك الراوي.
الحديث عن الصورة الواحدة يتشعب غالبا إلى مستويين: المستوى الذاتي، أي ذكريات الراوي المشارك في المجال او المكان الذي تتحدث عنه الصورة، وقد أفاض الراوي في الفصول ذات الصور المختلفة، في الحديث عن طفولته وصباه. المستوى الثاني: الموضوعي أو المكاني، وفيه حديث عن المدينة، في النطاق الذي ترسمه الصورة، أي تشكله تاريخيا وملابسات ذلك والحوادث الطريفة وغير الطريفة التي رافقته، فضلا عن ذكر الشخصيات الفاعلة في حدث الصورة المختارة.
مثلا فصل (دار السيد)، يتحدث عن صورة لأول ثانوية للبنين في القشلة، وأخرى لأول ثانوية للبنات الجزء الشرقي من المدينة. فيذكر مديرة ثانوية البنات شميران إبراهيم نزار (إليها يعود الفضل في تربية وتعليم الجيل الأول من المعلمات والمدرسات السماويات): 113، وينتقل إلى مدير ثانوية البنين عبد الجليل حسن الذي يعدد مزاياه أيضا، ولكونه مديرا للمدرسة الرائدة فهو أيضا له أفضال في تعليم جيل من كفاءات المدينة.
• على سبيل المثال والتوضيح أيضا، صورة (محطة السماوة القديمة)، فتحت شهية الراوي على سرد ذكرياته فيها، عندما كان ومجموعة من أصدقائه، يقرؤون دروسهم تحت أضواء المحطة، وسط المدينة، واصفا لحظة وصول القطارين الصاعد والنازل إلى #بغدادوالبصرة، منتصف الليل إلى المحطة، وكيف أن تلك البقعة من المدينة تغص في حركة دؤوب، بدءا من الباعة وأصحاب (الربلات) عربات الركاب التي تجرها الخيول، فضلا عن ترجل مسافرين، من القطار وصعود آخرين. كما يعرج الراوي على قصة (قطار الموت) الشهيرة، وكيف شارك مع أهالي السماوة في نجدة سجنائه، عندما وصل القطار الى هذه المحطة.
آخر فصل في الرواية كان معنونا بـ (نوافذ مفتوحة) يعد خاتمة لرواية سيرية، فيها تذكير للقارئ من حيث ابتدأت الرواية، في ذلك الصباح الذي عثر فيه على علبة الصور، خلف صورة الأب، وكأنها الكنز والوصية، كنز التراث الصوري للمدينة والوصية بالمحافظة عليه، كما هناك تحديد للزمن الذي جرى فيه تصفح تاريخ المدينة من خلال الصور، من الصباح حتى الظهيرة، حين شعر الراوي باختفاء محاوره الشيخ، لزيادة إيهام القارئ بحقيقة وجود هذه الشخصية في الرواية، بالإضافة لتساؤلات الراوي عن الشخصيات التي مرت في حياته، واختفت، شخصيات كانت مبثوثة في فصول الرواية، وبعضها يذكر لأول مرة في هذا الفصل. دفق من التساؤلات عن شخصيات اختفت شكلت تاريخ المدينة وتراثها، حتى يعيده سؤال زوجته عما إذا عثر على نقود في العلبة إلى راهنه، فيقول: (جمعت تراث المدينة وأعدته إلى العلبة وأودعت العلبة في الخزانة. التقطت القفل المكسور وغادرت الغرفة تاركا النافذة مفتوحة): 266، هذه الإعادة تشمل أيضا التذكير بأن أحداث الرواية، تحصيل حاصل وقائع جرت في الماضي، لعبت فيها شخصيات المدينة أدوارها منذ التاريخ البعيد إلى الماضي القريب.