اخبار العراق الان

جوهرة النهرين

جوهرة النهرين
جوهرة النهرين

2016-04-06 00:00:00 - المصدر: المسلة


2016/04/06 08:58

  • عدد القراءات 3
  • القسم : آراء

جوهرة النهرين

سمير عطا الله

غابت زها حديد عن الف تحفة معمارية وخمسة وستين عاماً كأنها عصر بأمه وأبيه. قالت مجلة "أبولو" إنها اعظم مهندسة بريطانية في الأعوام المئة الأخيرة. وصنّفها المصنِّفون في المرتبة الرابعة بين عشر أيقونات هندسية في العصر الحديث. وما من مدينة كبرى في العالم إلا وهناك مبنى رائع يُعرف من انحناءات سقفه المستحيلة وعليه توقيع زها. وفي زمن الاندثار العربي والخمول والتخلّف، برزت هذه الخلاّقة مثل عَلَم وحيد يرفرف في كل مكان. وعلى نحو ما يرمز هذا النجاح العربي المنفرد إلى مأساة العرب عموماً، والمرأة العربية بصورة خاصة، فلو بقيت زها حديد في العراق الذي غادرته في السبعينات، ماذا كان يمكن أن تصبح؟ لا شيء فوق ما هو مسموح به للمرأة العربية في أي مكان. تمكنت المرأة في العالم العربي من دخول بعض الحقول المحدودة كالطب، والتعليم، والصحافة، والقضاء. وهذا طبعاً في دول محدودة وقليلة. ودخلت في بلد مثل لبنان أو مصر البرلمان، أو الحكومة. وادارت أحياناً شركات العائلة أو إرثها. وتجلّت التجلي الكبير في الغناء مثل ام كلثوم، واسمهان، وفيروز.

يقول كاتب ايرلندي إن اكثر ما يتحدث عنه العالم هو المساواة بين المرأة والرجل، والمساواة بين الايرلنديين والآخرين، لكن لا المرأة ولا الايرلندي يبرحان مكانهما في المرتبة الثانية. تجاوزت زها حديد الفنون والإنسانيات لتخترق أعلى مراتب العلوم. وكما نتحدث عن العصر العباسي في العراق باشخاصه ورموزه وجمالياته ومدائن الرشيد وقصور الخلفاء، من يدري، فقد يُصنّف هذا العصر الهندسي غداً عصر الملكة التي جاءت من بلاد ما بين النهرين.

تحوّل اسم زها حديد إلى أشهر مهندسة في بريطانيا، واسم مجدي يعقوب إلى أشهر طبيب قلب فيها، واسم محمد الفايد إلى اشهر تجّارها. ويجمع بين الثلاثة انهم تركوا بلدانهم لأسباب سياسية. لم يكن العالم العربي يتسع لمواهب ما فوق العادة. ولذا، احتضنتها مجتمعات الانصهار وجعلتها من أنسابها الكبرى. ولم تتردد اليزابيت الثانية في ضم مجدي يعقوب وزها حديد إلى لائحة الشرف ومائدة الفرسان المستديرة. ويضيع نحو أربعة آلاف طبيب عراقي في مستشفيات بريطانيا واقاليمها. كما ينتشر ألوف الأطباء اللبنانيين في أميركا الشمالية وأوروبا. ويعتلي خمسة لبنانيين أرفع مواقع العلم في "النازا". وقد ذكرت مرة أن الدكتور انطوان صيداوي، المهاجر حديثاً من سوريا، يرأس تحرير أهم مجلة طبية في الولايات المتحدة. شيئان لن يتقدم العالم العربي أنمُلة من دونهما: المرأة والعلم. وهذا ما كانت تمثله زها حديد في شخصيتها المبهرة. لقد تجاوز العالم عصور العلوم الإنسانية وأوغل بعيداً في زمن العلم المجرّد. والمجتمعات التي قضت على الجزء الأكبر من الفقر إنما حققت ذلك باللجوء إلى العلوم والانصهار فيها. والثورات الحقيقية التي غيرت حياة البشرية لم تكن ثورة روبسبيار في فرنسا، ولا ماو تسي تونغ في الصين، ولا فلاديمير ايليتش في روسيا، بل الثورة الصناعية، واختراع البخار والكهرباء، وتحلية المياه، وآلات الحصاد الهائلة، والاسبيرين، والبينيسيلين، ولقاحات باستور. لقد انقذت هذه مئات الملايين من البشر، في حين قضت الثورات على عشرات الملايين بالعبث وشهوة الدماء ومتعة المقاصل.

انتمت زها حديد مبكراً إلى عالم لم نتعرف إليه بعد. هربت من فكرة الحزب الواحد وثقافة الزعيم الأوحد وحضارة الفكر الواحد، لكي تُلقي بعبقريتها في بلاد الحرية والآفاق. ولم تنجح فقط كموهبة نادرة، وإنما مكّنها العالم المتحضّر ايضاً من أن تكون صاحبة ومديرة احدى أهم وأكبر شركات الهندسة في الغرب. تخيّل أن صاحبة الإسم تطلبها الصين واليابان وايطاليا واميركا واسبانيا وسنغافورة وبريطانيا، كأنما ليس هناك من مهندس آخر للأعاجيب المعمارية في هذا العالم. بل اصبح توقيعها مثل لقب شرف يُعطى للمباني الوطنية الكبرى في انحاء العالم. وقبل سنوات قليلة قرأت أن طاولة سجائر من أربع اقدام بيعت بـ 200,000 دولار لأنها تحمل توقيع الملكة من العراق.

تمتلىء أخبار المساء، كل مساء، بصور النساء العربيات النائحات في شوارع بغداد، أو مرافىء اليونان، أو مخيمات تركيا. وتحمل النسوة اطفالاً بلا عدد نحو بحار بلا نهايات. وماذا كن يفعلن بالأمس في أي حال؟ كن يزرعن الحقول وهن حبالى ويحملن المياه على رؤوسهن، ويعملن في المنازل والشقاء والتُرع، من اجل أن يستريح الرجل العربي في مقهاه. يذكرنا غياب زها حديد بهذا الجلال العالمي والخشوع امام غيابها، بأن نسبة الأميّة بين بعض نساء العرب تتجاوز 70%. ويذكرنا بما كتبته الاستاذة لطيفة شعلان في "الحياة" وهو أن الرجل العربي لا يزال له الحق في الزواج من قاصر بينما قد بلغ الثمانين.

اتطلع إلى غياب زها حديد، إلى نقطة من نقاط اليقظة في العالم العربي. كم يبدو مشهد نسائنا واطفالنا تائهين في أعالي البحار في قوارب من مطاط. كم يبدو محزناً في غياب عنصرين جوهريين من عناصر المجتمعات: المرأة والعلم. في مقالته الاسبوع الماضي، يتحدث مروان اسكندر عن مدارس لبنان وجامعاته، متوقفاً عند تاسيس أول كلية للبنات. كان ذلك العام 1832، أي النصف الأول من القرن التاسع عشر. في نحو تلك المرحلة ايضاً بدأت الصحافة اللبنانية بالظهور. بدأت ولم تتوقف. من بيروت إلى مصر إلى البرازيل إلى الارجنتين إلى باريس إلى أي مكان في الأرض اجتمع فيه اكثر من لبنانيين. لم تكن الصحافة اللبنانية مجرد عمل صحافي بل حملت في حضنها النهضة الأدبية والشعرية واللغوية، فكان صاحب الصحيفة احياناً، هو صاحب التاج الأدبي، مثل احمد فارس الشدياق والاخطل الصغير وجرجي زيدان. ولولا الصحافة ودورها آنذاك لما عرفنا ما كانت حال الثروة الأدبية التي ظهرت في نيويورك مع جبران وميخائيل نعيمه، أو في البرازيل مع المعالفة الكبار.

هل يُقال لنا الآن إن الصحافة اللبنانية سوف تتوقف؟ هل ستذهب هذه المهنة ضحية أخرى من ضحايا الانهيار والزوال المتسارع على عمق البلد، وصدر الدولة التي صار يزعزعها كاريكاتور في صحيفة عربية؟ إن علامات الساعة ليست في كاريكاتور "الشرق الأوسط" وإنما في هجوم الرعاع على مكاتبها، بدل أن نرسل إلى تلك المكاتب مندوباً من القضاء أو وزارة الاعلام أو نقابة الصحافة يحتج بأدب على شطحة من رسام كاريكاتوري. ألم نكن في مرحلة ما بلد الزهو الكاريكاتوري في العالم العربي نمارس حرية الابتسام والضحك والسخرية في محيط متجهّم متغطرس لا يفرق بين اللمعة والخطيئة؟

عندما صدرت "الشرق الأوسط" في لندن قبل 30 عاماً، كان رسامها صاحب الفكر السياسي الساخر محمود كحيل. وعندما صدرت "الحياة" كان رسّامها اللاذع حبيب حداد. وهنا في بيروت كان بيار صادق يضحك العالم العربي كل صباح على الرؤساء والاعلام والبلدان والشعوب. وذات مرة ضحك بيل كلينتون من رسم لمحمود كحيل، فارسل إليه يطلب النسخة الأصلية بدل أن يرسل من يحطم المكاتب ويَذرو الرعب في النفوس والكره في صورة لبنان التي كانت في كل مكان صورة الابتسامة والحرية العربية.

كم هي مخيفة ليس فكرة توقف الصحافة اللبنانية، بل فكرة من سيحل محلها. مخيفة مرعبة مزرية ومُهينة. هذا ما نراه على ما يسمى وسائل التواصل الاجتماعي كل يوم وهي في الحقيقة، وسائل قطع وكره وانحدار. وتشبه سفاهتها التى لا حدود لها سفاهات السياسيين وفقرهم الشديد في المفردات وفي الخلق والآداب. من زمان حذّر المحذِّرون أن هذا ما سوف يحصل إذا استمر الخطاب السياسي في التردي والتسفه وازدراء كرامات الناس ومشاعر البشر.

تابعت – مرغماً – الحملة التي شُنّت على المطربة المعروفة بـ "احلام الاماراتية" بسبب تغريدة قليلة الذوق وجهتها إلى اللبنانيين. اولاً، لا أعرف إذا كانت تغريدة من مطربة تستحق أن يقوم الشعب اللبناني بأسره للرد عليها. ثانياً لا أعرف إذا كانت هذه اللغة في الردود مألوفة في لبنان من قبل. ثالثاً لا أعرف إذا كان مسموحاً أن نعطي عن لبنان واللبنانيين الصورة التي لم تكن "احلام" تحلم بأن تُعطى واحداً من المليون منها.

كان اسبوعاً من الحزن الحقيقي ذلك الأسبوع الذي مضى. غياب جوهرة انسانية تدعى زها حديد، وغياب مظاهر السلوك الاخلاقي في سياسات لبنان. فقد جاءنا مندوب هيئة عموم الأمم إلى بيروت يتفقد احوالنا، فلم يجد في استقباله أحد. وأذكر أيام كان يأت وزير الخارجية السورية الاستاذ فاروق الشرع إلى بعبدا، فيجتمع لاستقباله في القصر الجمهوري رئيس الجمهورية ورئيس مجلس النواب ورئيس الوزراء، وليس من الضروري أن يحضر وزير الخارجية.

لكن ماذا تنفع الذكرى؟ لا شيء طبعاً، إنما فقط في سبيل الجماليات والتاريخ ولمن لا يزال يعنيه أمر الإنسانيات . نتذكر مرور اسبوع على غياب جوهرة ما بين النهرين، ومرور 184 عاماً على أول كلية للبنات في بيروت. وشكراً على أرقامك أخي مروان، فهي أبلغ من كلماتنا.

 

*صحيفة النهار البنانية


almasalah.com/Template/Site/Images/A-