مع ان التعريف الدارج للأحزاب السياسية يجعلها في خانة الطبقية الاجتماعية (السياسية) والتي تعتمد على خلق قوالب جاهزة لأديولوجيات الحزب السياسي وسلوكياته, إلا أن فكرة الأحزاب والتنظيمات السياسية في عصرنا الحالي, وعلى الرغم من أهميتها الجوهرية في العملية السياسية الديمقراطية, إلا انها بدأت تعاني (خاصة في دول الشرق الأوسط) من عدم مقبولية اجتماعية, بدأت تضيق الخناق عليها. أسباب هذا الإبتعاد أو عدم القناعة قائمة أساس على تبدل وتغير سمات التفكير المجتمعي, وتغير سلم الأولويات والقيم الحياتية المعاشة لدى الفرد, فكان من الضروري أن تتحول فكرة العمل السياسي الناجح إلى أساس فعلي يتفاعل مع سلم القيم الحياتية (الاقتصادية منها والقيمية). جدلية المركزية المضادة لديمقراطية توزيع مراكز القرار, كانت من أهم المشاكل التي واجهت الأحزاب الديمقراطية بعد عام 2003, فنمطية العمل الحزبي التي ألفها الناس في العراق كانت تقوم أساسا على مبدأ وجود ثنائية (القيادة الرمزية + الأيديولوجيا الموجهة)؛ فشل هذه المنهجية في التعاطي مع أطر التسارع الكبيرة في المشاكل السياسية والاقتصادية, والحاجة الملحة لحلول واقعي في هيكليات العمل السياسي, خلق ضرورة إيجاد تجربة جديدة تتعامل مع حالة الموائمة ما بين الواقع المجتمعي, والواقع التياري السياسي. تجربة تيار الحكمة في العراق, يحاول القائمين عليها إيجاد سبل كفيلة بتحقيق هذه الحالة, وهي الإنتقال داخليا من منهجية الحزب الشمولي الإستبدادي (بشخص أو بهيئة قيادة), إلى تيار ما فوق السياسي, حيث يجعل من زعيمه جزء من المعادلة, وليس كل المعادلة, المعادلة : السياسية- المجتمعية. مشتركات القرار في تيار الحكمة بحسب فلسفة هذا التيار ستقوم على ثلاثة مساند رئيسية, الأولى هي زعيم التيار ومن يحيط به من خبراء, الثانية هي التنظيمات السياسية الفاعلة المنتمية لهذا التيار, الثالثة هي نفس الجمهور (السياسي) المجتمعي, حيث اتبع تيار الحكمة منهجية جديدة يعتمد فيها على فتح أبواب تقبل النقد البناء من كل أبناء المجتمع, ومحاولة منهجة هذه الفقرة إلى سياسة عمل في داخله, وسواء أكانت قيادة التيار صادقة أم لا في مدعاها هذا, إلا أن مجرد التثقيف لهذه الفكرة, هو خطوة أولى في بناء عملية سياسية صحية وسليمة. منهجية توزيع مراكز القرار وتكوينه, وإن كانت تجربة حديثة, قد لا تكون مهضومة حتى من قبل بعض تنظيمات التيار السياسي, لشدة تأثرهم بكارزما القائد الذي يتبعونه, إلا إنها خطوة أولى من أجل تنشئة سياسية صحيحة, تبعد شبح الإستبداد والهيمنة الشخصية على كل مقدرات العمل السياسي داخل أي تنظيم أو حزب سياسي؛ هذه التجربة كانت تستلزم من القائمين عليها, الانتقال وبشكل شبه كلي من مرحلة الفعل السياسي الداخلي المغلق, إلى الانطلاق نحو الفضاء المجتمعي الخارجي, فيكون هناك مقدار كبير من التفاعل والتغيير التطوري الإيجابي المستمر المتبادل, ما بين التيار السياسي (الحكمة في مثالنا) , وما بين الجمهور السياسي بشكل عام. المرحلة القادمة لتيار الحكمة, ستتجه صيرورتها التطورية على خلق طاقات شبابية إبداعية مسؤولة, يمكن لها تحمل المسؤولية, كونها انطلقت من عمليات خلق وتكوين ديمقراطية صحيحة, ومساهمة ومشاركة فاعلة في الفعل السياسي. فهل ستنجح هذه التجربة وسط تصدعات الثقة الجماهيرية بفواعل العمل السياسي؟ د.محمد أبو النواعير. *دكتوراه في النظرية السياسية- المدرسة السلوكية الأمريكية المعاصرة في السياسة.