د. طلال الشريف يكتب.. نحو منظومة عمل جديدة مبنية على فكر تحرري سليم في فلسطين

آخر تحديث 2018-12-05 00:00:00 - المصدر: قناة الغد

 

الحرية بلا قانون فوضى، والحرية بلا مضمون مجرد عبث، والحرية بلا مسئولية تتحول إلى انتحار .

ولأنَّ مفهوم الحرية لا يتجزأ، لا بالمكان ولا بالزمان، باعتبارها الهدية الإلهية والاختبار الرباني للإنسان، فإن مشكلة أو إشكالية الحرية هي إشكالية حضارية وروحية دائمة، باعتبارها هدية باهظة وثقيلة، وتغري بالاستلاب أو الغرور أو التطرف أو المغالاة .

والحرية ليست مجرد إحساس فردي، رغم أنها في بعض الأحيان تبدو كذلك، وليست ترفاً فكرياً، رغم أنها قد تبدو في لحظات ما كذلك . الحرية هي سؤال السياسة والاجتماع والدين والحضارة.

ولأنها كذلك، مربكة وعصية على  التعريف، ولأنها مورست وطُبِقّت في تجارب عديدة مختلفة، ولأنها كانت المطمع والمطمح لكل شعوب الأرض، فارتُكبت الجرائم باسمها، ومُورست الفضائل باسمها أيضاً، فإننا أمام مفهوم إشكالي من الدرجة الأولى .

ولا تقلّ حرية التعبير إشكالية عن المفهوم الأم . فما هي حرية التعبير، وما هي آلياتها، وما هي محدداتها وسقوفها، وما هي الغاية منها ؟ باعتبار أن العلل الغائية هي علل نهائية عادة ما يحلو للإنسان أن يسأل عنها .

بادئ ذي بدء، لا بد من الاعتراف أن الاجتماع يفرض قوانينه، بكلمات أخرى؛ كل جماعة أو كل مجتمع يفرض محرماته ومسموحاته، تأسيساً على مرجعياته الفكرية والروحية والحضارية. ليست هناك جماعة بدون سقوف وحدود معرفية وحتى عرقية، تستطيع من خلالها أن تفرّق بينها وبين الجماعات الأخرى، ولأن كل جماعة تفعل ذلك، فإن مفهوم الجماعة نفسه هو بحد ذاته سقفٌ أعلى لا يمكن تجاوزه لأية حرية مهما كانت . ولا فرق في هذا بين جماعة في الشرق أو الغرب . حدود الجماعة أو سقوفها تتمثل في الصورة الذهنية والروحية التي تعتقدها عن ذاتها، ولا تسمح لأحد باسم حرية التعبير أن يمس بها أو يعبث بمكوناتها أو أن يشكك بها. قد يقول قائل إن الغرب، وخلال عصور النهضة، استطاع أن يفعل الأعاجيب من خلال حرية التعبير. وبرأيي أن ما حصل في الغرب هو تغيير إله سماوي بإله أرضي، وسرعان ما رأينا أن ذلك تعدّل منذ القرن التاسع عشر، أي بعد انطلاق ما سمي بالنهضة بأقل من مئتي عام، وهذا كلام يطول .

وإذا كانت الجماعة بحد ذاتها هي إحدى سقوف حرية التعبير، فإن القوى الفاعلة في المجتمع ومراكز القوة فيه، تستطيع بما لديها من نفوذ فكري ومالي وسياسي، أن تقولب الرأي العام، قولبة ترضيها وتشرعنها وتسوّغها أمام الجماهير.

المجتمع الحيّ والمبادر هو مجتمع جماعات الضغط وجماعات المصالح، التي ترغب في التأثير من أجل التقدم، والحصول على مصادر الثروة ومواقع القرار. ولهذا فإن حرية التعبير تتحوّل إلى أن تدخل لعبة الشد والجذب هذه، إذ لا يمكن لحرية التعبير أن تكون بعيدة عن لعبة المصالح  ولعبة التأثير . ونحن هنا نتحدث عن المجتمعات الحيّة التي تشهد حراك ومتنفسات ومنابر، وتؤمن بتبادل السلطة عن طريق صناديق الإقتراع .

الديكتاتوريات عادةً لا تؤمن بالجماهير ولا بحراكها ولا بنُخَبها. الديكتاتور يرى نفسه مصدر السلطات وصاحب الثروة وصاحب الرؤية، يستعين في ذلك بالقوة ذاتياً أو خارجياً .

وحتى لا نتحدّث بشكل نظري، فإن الغرب وهو الآن على الأقل المدّعي الأول والمحامي الألمعي  لحرية التعبير، نجده يتخلّى بشكل مخجل عن هذه الدعاوي، عندما يتعلق الأمر بمصالحه وأطماعه وخططه الإستراتيجية . ولنتابع بشكل دقيق سياسات الغرب المُدّعي بحقوق وحريات الإنسان، ما الذي يفعله إزاء أنظمة قمعية في أواسط أسيا وفي منطقتنا العربية وفي أميركا اللاتينية . إذن، حرية التعبير ومرة أخرى، تدخل لعبة المصالح ولعبة توزيع الثروات . حرية التعبير ليست قوة مطلقة تضرب في الفراغ أو الفضاء . إنها تعبير حيوي عن المصالح والرؤى الهادفة أصلا إلى التقدم في المواقع داخل الجماعة الواحدة ليس إلا .

من هنا، فإن المجتمعات العربية ومجتمعنا الفلسطيني أحدها، تدخل مسألة حرية التعبير في خضمّ معقد من التركيب السياسي والاجتماعي والفكري، ذلك أن مفهوم الدولة في عالمنا العربي، لم يكتسب بعد شرعية كافية تؤهله للحوار أو النقاش، فعادة ما تعاني هذه الدولة من مشكلة التمثيل والشرعية والإنحياز والإرتباط والتبعية، وعادة ما تكون في وضع لا تحسد عليه، ما بين نُخب شعبها وبين المطلوب منها. ولهذا، فإن حرية التعبير في مثل هكذا وضع، تتحول إلى ما يشبه الإعتراض السياسي الذي ينذر بانقلاب أو ثورة. أي تتحول حرية التعبير ذاتها إلى لعبة خطرة حتى ولو كانت مجرد مسلسل تلفزيوني، وهذا ما نراه ونسمعه كل يوم . الدولة العربية التي فشلت في الإقناع والتسويغ والتبرير، في معظمها، ترى في حرية التعبير نوعاً من التحريض والدّسّ. ولان سؤال الشرعية مُشْرَع دائماً في وجه الدولة، فإن حرية التعبير تتحول بحد ذاتها إلى تدخل خارجي، ومن هنا، ينُظر إلى مؤسسات المجتمع المدني في عالمنا العربي عادة، على أنها أوكار وبؤر ومراكز خارجية .

هذا من جهة، ومن جهة أُخرى، فإن مراكز القوى في المجتمعات العربية عادة ما تكون النخب العسكرية والعشائرية  والاقتصادية، وليس النخب المثقفة إطلاقا. أكثر من ذلك، فإن النخب المثقفة المرتبطة عضوياً، بإحدى هذه القوى الاجتماعية، سرعان ما تتحول إلى مسوّغة ومبرّرة لها تماماً، الأمر الذي يجعل من المثقف، منتج الأفكار، مجرد تابع، ينفقد دوره القيادي والريادي، خاصة وأن الدولة والقوى الداعمة تتقوّى يوماً بعد يوم، بالإحكام الأمني والضغط الإقتصادي ومركزية الدولة. وفي بالمقابل فإن المثقف يخسر مواقعه أكثر فأكثر، باعتباره يعتمد أكثر فأكثر على الدولة من جهة، ولخوفه الشديد من فقدان مصدر رزقه أو أمنه الشخصي من جهة أخرى .

الأمر الثالث الذي يجعل من حرية التعبير مفهوماً غائماً وغامضاً هو الانفجار الذي نشهده في وسائل الاتصال وتكنولوجيا المعلومات، حيث تزيد المتعوية والاستهلاكية والفردية على الشعور الجَمْعي والوطني والقومي، وحيث تغيب الأفكار لصالح الصور، والمعرفية لصالح الترفيه، بحيث تتحول حرية التعبير إلى مسألة ربحية إعلانية ليس أكثر . وما النقاشات التي تنفجر كل يوم حول هذا الفيلم أو تلك الأغنية إلا مظهراً من مظاهر المستوى، الذي وصلت إليه ما تُسمى بحرية التعبير. قوة الدولة والأجهزة المتفرّعة منها، وقوة جماعات الضغط ومواقع المصالح، وطغيان الأعلمة والعولمة وانهيار الأفكار الكبرى، وتراجع دور المثقف وخسرانه لمواقعه كلها، جعلت من حرية التعبير مسألة شائكة، يتداخل فيها الحق الشخصي بالحق العام، وتبعية المجتمع وتبعية المثقف .

من ناحية أخرى، فإن هناك الآن في العالم ما يُسمّى بالإعلانات العالمية لحقوق الإنسان،وهي حقوق فرضتها الأمم المتحدة، لتكون بعيدة عن تصويت الأكثريات الديمقراطية! بمعنى آخر، فإن أي دولة في العالم الثالث لا تستطيع التصويت ضد حقوق الإنسان، لأن الجمعية العامة للأمم المتحدة  ومجلس الأمن والقوى، الكبرى تستطيع التدخل في شئونها عند ذلك! إذن، لقد أصبحت حرية التعبير مصانة عالمياً، وبعيدة عن مسألة الأكثرية أو الديموقراطية، وفي هذا اعتراف من العالم، بأن النظام الديمقراطي فيه عيوب لا تخفى على أحد.

هذا الأمر دفع بكثير من دول العالم إلى أن تشير في دساتيرها إلى حرية التعبير، كحق مُصان لكل إنسان، ولكن، كما قلنا من قبل، القانون وحده لا يكفي أبداً لان يتحوّل إلى ممارسة وفعل واستحقاق . حرية التعبير هي ممارسة إجتماعية كأي ممارسة أخرى، كالزواج وآداب المائدة .

السؤال هو: ما العمل ؟! كيف نحوّل هذا الحق وإلى ممارسة فعلية وحقيقية ؟! وللإجابة على هذا السؤال ، لا بد من العودة إلى المربع الأول، وإلى المنهل الثقافي الأول، والتركيب الاجتماعي الضاغط. ونحن هنا لا نتحدث عن الإحتلال، فالإحتلال خارج الصورة هنا، الإحتلال ضد الحرية بمفهومها الكبير. نحن هنا نتحدث عن حرية التعبير داخل مجتمع يعاني الإستلاب والإغتراب والتبعية. وأعتقد أن نقاش حرية التعبير في مجتمعات كهذه، ستصبح أكثر فائدة، لو ناقشنا هذا الاستلاب وهذا الإغتراب وهذه التبعيّة .

لا يمكن لنظام سياسي أن يؤمن بحرية التعبير إذا عانى من ضغوطات مختلفة. ولا يمكن لمجتمع لا يؤمن بدور المثقف، ولا يمنحه دوراً أن يؤمن بحرية التعبير. ولا يمكن لمثقف  مرتعب وخائف وتابع، أن يدافع أصلاً عن حرية تعبيره .

هل الصورة مظلمة ؟ أقول بكامل الأسى والأسف : نعم . الصورة قاتمة .. هل تعرفون  أن معظم  صحفنا ووسائل إعلامنا تخلو ، تقريباً ، من التحقيق الصحفي مثلاً، ومن غياب الرأي الآخر .. وإن مثل هذا الأمر في صحافة عريقة مثل صحافتنا، يعني أننا لا نطيق أن نسمع حتى ذواتنا .. هذه المداخلة بحدّ ذاتها إحساس بقتامة الصورة وظلاميتها .

ظل أن أشير الى أن المركزية الواحدة التي تحكم الكوكب، أو القطب الواحد الذي يقبض على عنق الأرض، هو الذي يزيد من حدّة تراجع الحرية بمفهومها الواسع، ويخنق مكوّناتها. ذلك أن مصلحة “الكبير الكوني الحاكم” الذي تشتغل بأمره باقي الأنظمة الصغيرة في العالم، تفرض على الصغار الحاكمين أن ينصاعوا لتلك المصلحة، والتي بالضرورة تطالب بقمع الحريات. بمعنى آخر؛ إذا رفض الصغارُ الحاكمون إملاءاتٍ الحاكم الكوني الكبير، فإنه يُخَلَّق شرعية جديدة تهدد شرعيتهم الزائفة أصلاً ! وبالتالي .. هكذا، تظل حرية التعبير مرهونة بالمصالح الكبرى  ومحكومة بها.

وإن عدم انطباق التركيبة الاجتماعية، مع التركيبة السياسية الحاكمة، أدى إلى هذا الفصام والثنائية والتناقض والنتوء في مجتمعنا العربي، المحكوم بنظامٍ كوني مفروض عليه بمعنى أن النظام السياسي لا يعبّر، وليس تتويجاً للحراك الاجتماعي والاقتصادي والثقافي في المجتمعات العربية. ما يعني أن الدولة العربية القطرية هي مُنفّذ ومشرّع، وبالتالي فإنها تستطيع أن تنفّذ القمع وتشرّع له دون محاسبة، عكس الدولة الغربية التي تُعتبر مُنَفّذاً لكنها ليست مُشرّعة، لأن ثمة مجالس تشريعية تُحاسب وتراقب، وتستطيع أن تُوقف أو تحدّ من ذلك القمع. أي أن هناك مجتمعاتٍ مبادرة تؤمن بثقافة المشاركة، وتسمحُ بمساحاتٍ كبيرة للتعبير وللرأي الآخر، فيما توجد مجتمعاتٌ منغلقة لا تسمحُ بذلك، وبالتالي فإن “شيخ القبيلة” أو “رجل الأمن” أو “رجل الدين” أو “الاقتصادي المتنفّذ” يستطيع أي واحدٍ منهم أن يمنع حرية التعبير، ويغلق هذا المنبر أو ذاك .

وأمام كل ذلك فإن الكلام المصقول والنظريّ، الدّاعي إلى مواجهة تلك القوى لا يكفي، لأن المطلوب هو ثورة تخلق فضاءً قادراً على احتمال الحوار وحرية التعبير وتشكيل النقابات وإنشاء المنابر الاعلامية . غير أن الثورة نفسها، ستأتي بحرية على مقاسها وحسب مصلحتها ورؤيتها . إذن فإن المطلوب هو أمرٌ يتعدى الثورة ويتّصل بنظرية العوامل المتعددة الواجب توفرها، لخلق مُناخ مواتٍ لحرية التعبير، وأولُ تلك العوامل إدراك “معنى” الحرية باعتبارها ضرورة، وأن تلك الضرورة لا تتحقق إلا بتضحيات وشهداء واصطفاف الجبهات.