عبدالحسين شعبان
بعد شهرين من بداية حركة الاحتجاج السلمية في العراق وما صاحبها من عنف مفرط وسقوط أكثر من 400 قتيل ونحو 18 ألف جريح، اضطرّ رئيس الوزراء عادل عبد المهدي تقديم استقالته إلى البرلمان. وكان واضحاً منذ الأيام الثلاثة الأولى 1 و2 و3 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي أن كل تأخير في الاستجابة إلى المطالب العادلة لحركة الاحتجاج ذات الطابع الاقتصادي والاجتماعي والخدمي ومكافحة الفساد يعني رفع سقف المطالب، تلك التي تبلورت لاحقاً بإقالة الحكومة وتعديل الدستور أو كتابة دستور جديد وسن قانون جديد للانتخابات يمنع تدوير الزوايا بحيث لا يمكّن القوى المهيمنة على الاستمرار في المواقع التي شغلتها دون وجه حق منذ الاحتلال الأمريكي للعراق العام 2003 ولحد الآن، فضلاً عن إعادة النظر في الهيئات المستقلة ، ولاسيّما المفوضية العليا للإشراف على الانتخابات.
ومثل هذه المطالب ذات التوجه السياسي تعني فيما تعنيه إلغاء العملية السياسية الفاشلة أو تعديل مسارها جذرياً، تلك التي دشنها بول بريمر الحاكم المدني الأمريكي للعراق (13/مايو/ 2003- 28 يونيو/حزيران/2004) بالتقاسم الوظيفي المذهبي والطائفي والإثني وكان من مخرجاتها الأساسية توزيع المغانم والمكاسب على الكتل والجماعات السياسية وفقاً لنظام محاصصة جرى اعتمادها، سواء في مجلس الحكم الانتقالي الذي توزّعت فيه المقاعد وفقاً لخريطة غريبة تتكون من الشيعية السياسية 13 مقعداً والسنّية السياسية 5 مقاعد والكردية القومية 5 مقاعد إضافة إلى مقعد واحد للتركمان ومقعد واحد للكلدوآشوريين.
وعلى هذا المنوال سارت الحكومات منذ العام 2003 ولغاية اليوم، حيث اعتمدت الصيغة المحاصصاتية الآتية: رئيس جمهورية (من حصة الكرد) ورئيس برلمان (من حصة السنّة) ورئيس وزراء (من حصة الشيعة) وتتركز حسب الدستور الصلاحيات الرئيسية بيد الأخير، المسؤول عن السلطة التنفيذية، على الرغم من أنه محكوم وفقاً للنظام البرلماني بترشيح الكتل البرلمانية الكبرى التي تتحكّم فيها الأحزاب الشيعية.
لقد فشلت جميع الحكومات السابقة في إنهاض البلد وإعادة عجلة الاقتصاد والتنمية ومعالجة آثار الحروب والحصار والدمار الاجتماعي والنفسي الذي حلّ بالمجتمع العراقي ، سواء بفعل الدكتاتورية التي حكمت البلاد ثلاثة عقود ونيّف من الزمان، أو بعد الاحتلال الأمريكي الذي أذلّ العراقيين وامتهن كرامتهم، ولعلّ حادثة “سجن أبو غريب” الشهيرة دليلاً واحداً على حجم الارتكابات التي قامت بها القوات المحتلّة في العراق، والتي اضطرّت إلى الانسحاب في أواخر العام 2011، تاركة البلاد فريسة لدول الجوار الإقليمي الطامعة بالعراق، ولاسيّما للنفوذ الإيراني الواسع الانتشار أمنياً وسياسياً ومذهبياً واقتصادياً وغير ذلك، لاسيّما في ظل وجود قوى سياسية تعمل معه وقسم منها تأسس في طهران خلال سنوات الحرب العراقية- الإيرانية الدامية (1980- 1988)، وبعضها ذراعه في الصراع الداخلي والإقليمي أيضاً، دون أن ننسى التمدد التركي حيث توجد عدّة قوات تركية في كردستان شمال العراق وترفض تركيا مغادرتها بحجة مكافحة الإرهاب وحزب العمال الكردستاني PKK.
ولذلك لاحظنا أن الشعارات الأساسية لحركة الاحتجاج ركّزت على إنهاء النفوذ الإيراني والتخلّص من صيغة نظام المحاصصة الطائفي- الإثني الذي سبّب كوارث كبيرة، وخصوصاً بارتفاع رصيد الطائفية السياسية التي قامت على التعصّب ووليده التطرّف، والتي شكّلت أحد مظاهر المشهد السياسي العراقي الذي اتّسم بالعنف وهذا الأخير حين يضرب عشوائياً يصبح إرهاباً.
وبالطبع فقد كان التدخل الدولي والإقليمي أحد الأسباب الأساسية في تسلل الجماعات الإرهابية، ولاسيّما تنظيم ” القاعدة” وربيبه “داعش” إلى العراق، حيث وجد بيض التعصب جاهزاً للتفقيس ولانتشار فايروس العنف والإرهاب، جرّاء العقوبات الدولية التي فُرضت على العراق منذ احتلال قواته للكويت العام 1990 وانغلاق مجتمعه ومنعه من التواصل مع العالم الخارجي.
لقد أصبحت البلاد على صفيح ساخن بفعل الصراع الأمريكي- الإيراني وكانت الحكومات الواحدة تلو الأخرى تتأرجح بين القطبين، وإن كان القطب الإيراني أطول ذراعاً أمضى سلاحاً بحكم علاقاته مع القوى السياسية الشيعية، فضلاً عن الحدود الممتدة بين البلدين والتي تزيد على 1200 كم2، ناهيك عن معرفته بالمجتمع العراقي وحساسياته ونقاط ضعفه، تلك التي خبرها تاريخياً، وقد أدركت إيران أن وجود عراق قوي وموحّد يعني تقليص نفوذها ومنعها من تحقيق أطماعها، ولذلك سعت لأن يبقى العراق موزعاً بين “مكوّنات” تلك التي تضمّنها ” الدستور” الدائم الذي تم التصديق عليه في 15 أكتوبر (تشرين الأول) 2005 ولم يكن ذلك سوى التقاسم المذهبي والطائفي والإثني، والغريب أن نظام المكوّنات ورد في الدستور سبع مرّات، مرّتان في المقدمة وفي المواد 9 و12 و49 و125 و142 وشمل جميع المفاصل في الدولة العراقية، وهو مدعوم أمريكياً بحكم وضع مسوّداته نوح فيلدمان وبمشاركة لاحقة من بيتر غالبرايت.
ربما كان حظ رئيس الوزراء العراقي ( الخامس) عادل عبد المهدي منذ الاحتلال، أسوأ مما سبقوه، مع أنه نتاج العملية السياسية المحاصصاتية ذاتها، لكن حركة الاحتجاج التي بدأت متقطعة ولكنها متواصلة ومتّصلة منذ العام 2011 وبشكل خاص في المناطق الغربية في العام 2013 واستمرت في العام 2015 في بغداد بشكل خاص، تراكمت في العام 2019، لاسيّما بتدهور الوضع المعاشي وفشل الحكومات السابقة وعدم تحقق شيء من الوعود المنشودة، حيث ازدادت البطالة لتصل إلى نحو 30%، وفي بعض المحافظات مثل السماوة (المثنى) إلى نحو 51% حسب إحصاءات رسمية، بما فيها لخريجي الجامعات والشهادات العليا، يضاف إلى ذلك استمرار هدر المال العام والفساد المستشري والضارب الأطناب في جميع مفاصل الدولة ولدى القوى السياسية المشاركة في إدارة الدولة جميعها دون استثناء، حيث يوجد أكثر من 1000 حالة فساد لكبار مسؤولي الدولة من وزراء ونواب ومستشارين ومدراء عامين لم يتم تحريكها، إضافة إلى أكثر من 15 ألف حالة فساد لموظفين ومسؤولين رفيعي المستوى .
وإذا كانت الحكومة قد مُنحت فرصة عام واحد على أمل أن تحقق شيئاً يذكر لصالح المحرومين، فإنها فشلت ووعودها تبخّرت والاصلاحات التي تحدث عنها برنامجها بإسهاب ظلّت على الورق في الغالب أو أنها لم ترتقِ إلى إقناع المحتجين الذين ذاقوا الأمرّين وجلّهم من الشباب المتطّلع إلى حياة عصرية كريمة وفرص عمل وخدمات مثل المجتمعات الأخرى بما فيها الأقل موارداً.
وتحت ضغط حركة الاحتجاج والدم المُراق اضطرّ رئيس الوزراء لتقديم استقالته فلم تعد المكابرة ممكنة، خصوصاً وإن الحركة تتصاعد وتتسع حيث شملت 10 محافظات ذات أغلبية شيعية تدّعي التيارات الإسلامية الشيعية إنها كانت مهمّشة ومظلومة وهي جاءت لانتشالها من وضعها المأساوي، فإذا بها تزداد مأساوية وظلماً وجحوداً وتنكّراً. وقد برّر رئيس الوزراء استقالته استجابة لطلب السيد علي السيستاني رجل الدين المتنفّذ في النجف، بما ينطبق عليه القول المأثور ” مكره أخاك لا بطل” وحين وجه رسالته إلى البرلمان بدأها بالآية الكريمة ” يا أبتي إفعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين…” (سورة الصافات – آية 102).
وكم كان مناسباً لو فعل ذلك منذ اليوم الأول لتدفق الدم واستجابة لمطالب حركة الاحتجاج وحقناً للدماء الزكية وحفاظاً على أرواح الشهداء والممتلكات العامة والخاصة التي تضرّرت خلال الفترة المنصرمة لجنّب نفسه والبلاد والعباد من الكارثة التي حلّت بالجميع.
وحتى تلك الاستقالة أثارت العديد من الإشكالات فحسب الدستور لا توجد فقرة متعلقة باستقالة رئيس الوزراء وإنما إقالته، أي ” سحب الثقة” منه من قبل البرلمان بعد استجوابه، ولكنه رفض الحضور للاستجواب بعد أن طلب منه البرلمان ذلك، كما يمكن سحب الثقة منه بطلب من رئيس الجمهورية له بالتنحي عن منصبه، كي يختار مرشحاً آخر من الكتلة الأكبر في البرلمان، حسب الدستور ، إضافة إلى قرار المحكمة الاتحادية.
ولكن ماذا لو اختار البرلمان إحدى الشخصيات من الكتلة الأكبر أو اختار رئيس الجمهورية مرشحاً جديداً طبقاً لنفس المواصفات التي يذهب إليها الدستور؟ فما العمل؟ وكيف السبيل للخروج من هذا المأزق الذي سيعني استمرار حركة الاحتجاج ، وذلك ينذر بالمزيد من الخسائر في الأرواح والأموال، فضلاً عن تعطل التنمية؟.
وتتنافس القوى السياسية المشاركة في البرلمان لتقديم مرشحيها وترددت بعض الأسماء التي أعلنت حركة الاحتجاج رفضها جميعها ووعدت باستمرار اعتصاماتها وتجمعاتها بالساحات والميادين ، ولاسيّما في ساحة التحرير ببغداد، حتى تتحقق مطالبها في استعادة الوطن والتطلّع لحياة كريمة ، عبر طائفة المطالب التي جرى ذكرها.
وحتى الآن لا تدرك القوى المشاركة بالعملية السياسية حجم الضرر الواقع على البلاد والهوّة السحيقة التي تفصلها عن الشارع وجمهور الشعب المحتج منذ شهرين ونيّف، حيث لجأ البرلمان إلى تشكيل لجان لتعديل الدستور وكذلك لجان لسنّ قانون انتخابي جديد، من ذات القوى المؤتلفة في العملية السياسية، دون أن يعي أن حركة الاحتجاج ترفض مثل هذه التشكيلات، بل إنها تدعو إلى حلّ البرلمان، خصوصاً وأن الانتخابات الأخيرة لم يشارك فيها أكثر من 20% حسب بعض التقديرات.
والأكثر من ذلك، الارتباك الحاصل لدى المسؤولين في الرئاسات الثلاث، فرئيس الجمهورية هو الآخر شكّل لجنة لصياغة التعديلات الدستورية، وترشح عن خلاف بينه وبين رئيس الوزراء على خلفية تأييده لمطالب المحتجين، وحال إعلان رئيس الوزراء عن نيّته في الاستقالة وقبل تقديمها صدرت بيانات من رئيس وزراء إقليم كردستان مسرور بارزاني ورئيس الإقليم نجيرفان بارزاني تؤيد المطالب الشعبية، وكانت قد أبدت تحفظات في البداية خشية من التأثير على المكاسب التي حققها الإقليم، ولاسيّما الخاصة بالدستور، كما أعلنت محافظات الأنبار وصلاح الدين والموصل وكركوك وديالى تضامنها مع حركة الاحتجاج، وأقامت مجالس الفاتحة على أرواح شهداء النجف والناصرية وبغداد الذين سقطوا عشية ويوم استقالة رئيس الوزراء.
حتى الآن لا أحد يستطيع التكهن بما ستؤول إليه التطورات السياسية في العراق، خصوصاً في ظل تداخلات إقليمية ودولية ووجود مندسين حاولوا استغلال الصراع الدائر ووقوف بعض القوى ضد أي تغيير بزعم الامتدادات الأمريكية والسفارات الأجنبية، وهو الموقف الذي اتخذته إيران على لسان المرشد السيد علي خامنئي حين اتهم حركة الاحتجاج بأنها من صنع واشنطن وتل أبيب وبعض العواصم العربية.
لكن المؤكد إن عراق ما قبل 1 أكتوبر (تشرين الأول) هو غيره سيكون ما بعده، إذْ لا يمكن الاستمرار بما هو قائم، جزئياً أو كلياً وهذا يعتمد على توازن القوى وكيف سيحسم الصراع الدائر وهل ستضطر القوى المهيمنة التخلّي عن مواقعها أم أنها ستعيد الكرّة وتضبط المشهد بالقوة وبمساعدة إيران؟ وإذا ما أريد الخروج من المأزق الراهن، فالأمر يتطلّب حلاً استثنائياً لأننا أمام وضع استثنائي وقد يحتاج ذلك إلى تدخّل من المجتمع الدولي، والأمم المتحدة تحديداً.
باحث وكاتب عراقي