تتبدل المواقف السياسية عمومًا بحسب المصالح وصار من البديهيات المكررة نسخَ عبارةِ ونستون تشرشل حول عدم وجود صديق دائم أو عدو دائم في السياسة بل مصالح دائمة؛ لكن السياسة في عراق ما بعد 2003 تتخذ كالعادة مسارًا خاصًا يدمج بين التجارة والسياسة والسمسرة والخفة، حيث تتبدل المواقف بسرعةٍ هي أقرب للألعاب الإلكترونية منها إلى العمل السياسي، ولعل الأمر يرتبط بطبيعة نظام المحاصصة لناحية تعبئة الهويات الفرعية ونوعية الاقتصاد وتوزيع الثروة والعامل الخارجي؛ لكن الجذر الأساس هو الانحطاط السياسي لنظام لا قاعدة أخلاقية/أيديولوجية يستند إليها في حكم الدولة.
أحد الخيارات ممكنة التحقق وفق معطيات الواقع لا الرغبات هي إيجاد حالة توافقية تجمع كبار الأحزاب وتقصي صغارها في حكومة أغلبية الشكل وتوافقية المضمون
ولأن النظام العراقي نظام توافقي قائم على المحاصصة الطائفية/الإثنية فأن مثالنا اليوم (موضوع المقالة) هو الأبرز فيه خصوصًا ونحن في سياق تداعيات نتائج الانتخابات وحراك تشكيل الحكومة المتسارع رغم الاعتراضات الكبيرة على النتائج من قبل قوى ما يسمى بالإطار التنسيقي الشيعي.
الأغلبية التوافقية!
لربما يحتاج قاموس السياسة العراقية المشوّه إلى المزيد من التعبيرات المبتكرة لملاحقة عبث الأحزاب والقوى بأصول العمل السياسي وفق حده الأدنى.
اقرأ/ي أيضًا: الأغلبية الوطنية والأغلبية التوافقية
اعتدنا ـ بعد كل انتخابات ـ سماع الكثير من الحوارات والتصريحات الإعلامية التي عادةً ما تنتهي حال تشكيل الحكومة حول مفردات التوافق والأغلبية والمعارضة والموالاة لينتصر بعدها التوافق، ولفك اللبس و"الاستذكاء" من البعض، نعني بالحكومة التوافقية: مشاركة جميع الأحزاب في الحكومة وتوزيع الحصص وفق الحجوم الانتخابية لتنتج بذلك توافقية محاصصاتية.
لسنوات عدّة، طرحت قوى مؤثرة مشروع "الأغلبية السياسية" في خطاباتها وبرامجها وتبنته بشدة، وعلى رأسها ائتلاف دولة القانون برئاسة نوري المالكي حين كان يمتلك مقاعد كثيرة لكن التوافق يعيقه في الحكومة ومجلس النواب. وكذلك تيار الحكمة برئاسة عمار الحكيم الذي خرج من مولد حكومة التوافق بين الصدريين والفتح في 2018 بلا حمص، ليطرح الأغلبية مشروعًا سياسيًا فضلًا عن كتل أخرى من الطريف أنها تجتمع اليوم في "الإطار التنسيقي الشيعي" رفضًا للأغلبية!
في غرب وشمال العراق، لم تنشغل القوى السياسية في برامجها الانتخابية بموضوعة التوافق وإصلاح النظام السياسي لناحية معوقاته الحركية كما هي الآن غير منشغلة سوى بما بدأت به: يُريد الكرد مكاسب تتعلق بحصصهم المالية وحلولًا للمناطق التي فقدوها في 2017 ويناقشون منصب رئاسة الجمهورية ومن ثم سيبحثون بقية الوزارات. يُريد الفريق السُني الجديد (بعد إقصاء الحرس القديم) الاستمرار على نهج كسب القواعد الشعبية عبر المناصب والمشاريع. يُريد الطرفان شراكة أكبر في الحكم؛ لكن دون تغيير معادلة الحكم!
بغض النظر عن قرب القوى السُنية والكردية من طرف شيعي على حساب آخر؛ يصرحان مرارًا بابتعادهما عن تفضيل الصدريين أو الإطار أحدهما على الآخر، لأسباب عديدة برأينا بينها الخوف من ردة الفعل والتعقيد الإقليمي والرغبة بالحفاظ على مسافة معينة من الحراك الشيعي الساخن وانتظار الفرص السانحة لزيادة المغانم. ولا ننسى الإشارة إلى تبدل موقف الديمقراطي الكردستاني ذاته في بعض التصريحات، إذ كان أشد المتمسكين بالتوافق قبل أن يعترف بعض أعضائه بفشل التجارب التوافقية وتفضيل الأغلبية، وهي صورة مقلوبة لتغير موقف الإطار التنسيقي.
وإذا أخذنا بنظر الاعتبار تمسك الإطار بالتوافقية والنأي بالنفس السُني والكردي عن الخوض في أساسيات معادلة الحكم وسط تشبث الصدر الفائز الأول بخيار الأغلبية مع تشنج المواقف السياسية والأمنية عامة سيكون على هذه الكتل ابتداع "الأغلبية التوافقية" لإرضاء الجميع استمرارًا لمسلسل التعبيرات والمفاهيم الغريبة التي يخلقها النظام من العدم لتعود إليه.
الأغلبية أو التوافقية المقلّصة
أحد الخيارات التي نرى أنها ممكنة التحقق وفق معطيات الواقع لا الرغبات هي إيجاد حالة توافقية تجمع كبار الأحزاب وتقصي صغارها في حكومة أغلبية الشكل وتوافقية المضمون، أو لنطلق عليها "توافقية مقلّصة"، وستكون هناك بطبيعة الحال أطراف أكثر سيطرة على الحكم من أخرى مقابل جهات ستتخذ خيار المعارضة لتُكمل المشاهد التمثيلية السياسية في المسرح العراقي.
أما خيار الأغلبية والتي نعني بها ـ مرة أخرى ـ انقسام الكتل الرئيسة إلى حكومة ومعارضة فهو يتضاءل كلّ ما وُجد تفاهم سُني ـ سُني وآخر كُردي ـ كُردي. في هذه الحالة سيكون إصرار الصدر على الأغلبية عاملًا يعزز من حظوظ الإطار التنسيقي لاعتبارات رئيسة: أولها أن الإطار لظروف انتخابية وإقليمية ولطبيعته التكوينية لن يجادل السُنة والكرد في مطالبهما الوزارية، كما لن يفرض شروطًا (مثل الأغلبية)، إضافة إلى ضمّه العديد من الأطراف السياسية الشيعية ذات الثقل "الرمزي" في النظام، والأطراف المسلحة المشاغبة، مقابل طرف شيعي واحد يتمثل بالصدر وشروطه.
وعلى العكس، يتعزز خيار الأغلبية كلّ ما زادت الانقسامات داخل ما يسمى بالبيت السُني والبيت الكردي. سُيتيح الانقسام للصدر اللعب على صراع الأطراف في الداخل وترجيح بعضهم على بعض، ودفعهم لتقديم تنازلات وإعلان انحيازاتهم إضافة للإبقاء على معادلة النسب التي تُقلق بعض الشيعة، وكذلك سُيتيح الانقسام للإطار ذات اللعبة.
يُدرك رئيس تحالف تقدم محمد الحلبوسي ألّا زعامة سُنية دون منصب؛ لكن الآخرين يُدركون هذه الحقيقة، لذا فأن الصراع بينه وبين تحالف العزم برئاسة الخنجر، وفي داخل تحالفه هو، يجعل إمكانية انشقاق البيت السُني ممكنة في أي لحظة رغم الحديث عن التقارب.
على الجانب الآخر، أدت عملية إعادة العد والفرز اليدوي لبعض المحطات وشطب أصوات ناخبين إلى خسارة الحزب الديمقراطي الكردستاني لمقعدين، ما جعل حزب بارزاني يخسر أغلبية النصف + 1 في دورق الفائزين الكُرد، وهو ما قد يُغير معادلةً ما ويعزز احتمالية عودة خلافات 2018 على منصب رئاسة الجمهورية وبالتالي تزعزع التوافق.
والحق، إن اجتماع ما يدعى بالبيتين السُني والكردي مقابل تشظي البيت الشيعي ليس حلًأ لمعضلة التوافق التي تكبّل الدولة وترسخ الفساد والتدخل الخارجي، بل بانشقاق التكتلات الطائفية الثلاثة بانقسام عمودي كخطوة أولية على أمل نضوج العملية السياسية ومغادرتها للانعزال المكوناتي.
يتعزز خيار الأغلبية كلّ ما زادت الانقسامات داخل ما يسمى بالبيت السُني والبيت الكردي
بخلاف ذلك، وبتوافق تقدم ـ عزم و بارتي ـ يكتي على رئيس لمجلس النواب وآخر للجمهورية فباعتقادنا سيخسر الصدر المزيد من نقاط قوته ولربما الجولة لصالح الإطار: إما بذهابه للمعارضة، أو بخضوعه ـ رغم الفوز ـ للتوافق بعناوينه المذكورة أعلاه، الموضوعية منها والساخرة.
اقرأ/ي أيضًا:
اختيار رئيس الوزراء وعقدة التوافقية في النظام.. شرط واحد لتحقّق الأغلبية
هل هناك معنى لمفهوم "الأغلبية الوطنية"؟