الدين ضحية السلطة

آخر تحديث 2021-12-25 00:00:00 - المصدر: الترا عراق

إنّ من لم تغوِهِ الرغبة في أن يكون الأول في المدينة لن يفقه شيئًا من اللعبة السياسية، ولن يفهم شيئًا عن إرادة إخضاع الآخرين لتحويلهم إلى أشياء، كما لن يحدس شيئًا من العناصر التي يتكوّن منها فن الاحتقار.. السلطة ذلك الجحيم المنشّط، ذاك الخليط من السم والترياق. إميل سيوران، تاريخ ويوتوبيا.

من أشد الرغبات افتراسًا والتي لا يقوى الإنسان على مقاومة نشوتها هي السلطة. وما أن تدّب هذه النشوة في أوصال الرجال، فستنهار كل النماذج المثالية التي حلموا بها، وتتساقط كل الوعود التي تغنوا بها. إنها عملية افتراس أزلية سنبقى مدينين لها حتى لو ساهمت في قتلنا! فـ"الولايات مضامير الرجال" حسب وصف علي بن أبي طالب.

من سوء حظّنا في العراق أن التوّاقين إلى السلطة اختاروا بطيب خاطر أن يكون ضحيتهم الأكبر هو الدين

 وضحايا السلطة أكبر من أن يحصَوا، إلّا أن الضحية الأكبر هو الدين نظرًا لقابليته الهائلة على تمثّل القيم والفضائل الروحية. فحين تدخل عليه السلطة ستحيله إلى معجم غامض يصعب تفكيك مفرداته، بل سيتحول إلى محطة إفتاء لشرعنة السلطة. ويختلط الديني بالدنيوي بشكلٍ سافر لدرجة يصعب التفريق بينهما.

اقرأ/ي أيضًا: عن رئيس الوزراء المتدين

ماذا فعلت نكسة السقيفة يوم صرخ القوم "منّا أمير ومنّكم أمير"؟ إنها اللحظة التي سجلها التاريخ، اللحظة التي انزاح بها الدين، نسبيًا، عن ثقله الروحي الهائل؛ فتحول القوم إلى ملل ونحل يأكل بعضهم بعضًا. والغريب أن معاركهم الضارية فيما بينهم كانت تأخذ صفة المشروعية من الدين نفسه!

المهم في الأمر، كيف لدينٍ عريقٍ قارب عمره على الألف وخمسمائة عام، كالدين الإسلامي، وأسّس حضارة من أكثر الحضارات جدلًا، واستطاع أن يسقط أعتى إمبراطوريتين في التاريخ، البيزنطية، والفارسية، ودحرج كرة الثلج في الصحراء، فملك المسلمون الدنيا وأدانت لهم كبرى إمبراطوريات العالم، كيف لهذا الدين أن تتحكم به، في العراق بالتحديد، سلطة الأحزاب الدينية، لتحيله إلى طقوسٍ شعبيةٍ، ووحشٍ جماهيريٍ، وشعاراتٍ سياسيةٍ، محاولةً شرعنة كل أشكال الفساد، متخذةً من الدين إطارًا صلبًا للتغطية على فِعالِها؟

ليس هذا فحسب، فقد اقتسمت الغنيمة الدينية بعناية فائقة؛ السلطة التي وهبها إيّاهم الدين، ومباهج الدنيا التي لم يكونوا يحلموا بها من قبل، وترسيخ نفوذهم عبر الهيمنة على المفاصل الحيوية للدولة العراقية، وتقسيم منابع النفوذ فيما بينهم.

أمّا الباقي؛ مثل التظاهرات لصالح أغراضنا الشخصية، ومغازلة عواطف الناس الدينية بين الحين والآخر لضمان ولاءهم، والتنديد بالفساد والفقر، حتى لو كانوا الطرف المهيمن في السلطة، فستكون هذه الفعاليات مكفولة لجمهورهم السعيد؛ الجمهور المسؤول على تعزيز سلطة الأحزاب الدينية. حتى لو كان هذا الجمهور السعيد متذمرًا من أحزابه، فسيكون على أهبة الاستعداد في القضايا المصيرية (مثل قضية محمد رمضان الخطيرة!)، فقد يتعرّض العراق إلى وصمة عار كبيرة ما لم تتخذ السلطة الدينية المتمثلة بالأحزاب الإجراء اللازم.

يقول سيوران، ونحن نصادق على كلامه بلا أدنى شك، قليلون هم أولائك الذين لم يشعروا بالظمأ إلى امتلاك السلطة بدرجة من الدرجات. والرجل يتكلم عن بصيرة ثاقبة أثبتتها الوقائع التاريخية. ويبدو أن هذا الظمأ المزمن تجاه السلطة غير قابل للكبت، بل ربما ستكون عواقبه وخيمة ومرعبة؛ إذ كلّما تم كبته ازداد النزوع إلى السلطة بأشكالٍ عنيفة للغاية.

 لكن ومن سوء حظّنا في العراق أن التوّاقين إلى السلطة، اختاروا بطيب خاطر أن يكون ضحيتهم الأكبر هو الدين. يمكن أن نقتل، عشرات الشباب المنتفضين باسم الدين، ويمكن أن نسيطر على مصادر الثروة الرئيسية باسم الدين، ويمكن أن تبقى الدولة مُعَلّقَة على صليب المجهول باسم الدين أيضًا.

فالظمأ تجاه السلطة يبيح كل المحذورات ويشرعن كل الفظائع التي جرت على مر التاريخ. لكن المفيد في هذه الحقبة التاريخية السوداء أننا فهمنا تلك القصة: كل ما جرى في العراق السياسي الحديث وحتى هذه اللحظة هو صراع همجي على السلطة بأشكال تعبيرية مختلفة ولا دخل له بقيم إنسانية وهموم وطنية، وآخرها هو استثمار الدين وجعله أحد ضحايا السلطة.

فلنحلم!: ربما ستساهم هذه القوى الدينية، بشكل فعّال، من غير أن تشعر، بتحرير الدين من السياسة، وأن يرجع الدين مصدرًا من مصادر الإشعاع الروحي وأن يتحرر من قبضة السلطة، وأن يرجع هذا الجمهور السعيد إلى رشده وتدينه الحقيقي؛ إذ لا يوجد دين، سماويًا كان أو أرضيًا، أن يقبل بما يجري من وقائع تشيب لها الولدان، وهذا الجمهور ساكت، وقانع، وزاهد، بما عنده، وخصوصًا عن ضمانه السياسي الوحيد وهو الدولة ومؤسساتها العصرية. لكن أخشى أنه لا يفقه أي معنى للدولة ما لم ترتبط هذه الأخيرة بسلطة الاستبداد باسم الدين.

أليست الدولة مجهولة المالك؟ ألم يقل أحد الفقهاء ما مضمونه، أننا نجيز إعطاء الرواتب بعنوان الصدقة لأن الدولة مجهولة المالك؟ ألم تتم تصفية المتظاهرين بعنوان "الجاسوسية"، و"الجوكرية"، و"أبناء السفارات"، و"اللوطية". وبالمناسبة هذه التهمة الأخيرة، المُختارة بعناية، لا تحتاج إلى شهود مثل الزنا، فصاحبها يستحق القتل فورًا. يمكننا أن نفعل أي شيء طالما أن الدين غطائنا وسترنا وضحيتنا المثالية. فمرحبا بنشوة السلطة!

اقرأ/ي أيضًا: 

التلوّث النفسي في بيئة الإسلام السياسي

عن الاستعمار والاستقلال.. محاولة لفكّ الالتباس