على الرغم من تكرير المسؤولين وزعماء الأحزاب السياسية في العراق، أن أبرز ما نالته البلاد، بعد عام 2003، هو حرية التعبير عن الرأي، إلا أن ذلك بات محل تندّر خلال السنوات الأخيرة. إذ عرفت البلاد زيادة في عمليات اعتقال المدونين والناشطين، إلى جانب اختفاء عدد غير قليل منهم، فضلاً عن اغتيال آخرين.
ووفقاً لمسؤول في هيئة الإعلام والاتصال في العاصمة العراقية بغداد، فإن أكثر من نصف العراقيين الذين يستخدمون وسائل التواصل الاجتماعي يمتلكون حسابين على منصتي فيسبوك أو تويتر، يُستخدم أحدهما للتعبير عن الآراء السياسية والتعليق على الأحداث العامة في البلاد بحرية من دون خوف من الملاحقة والتهديد، عبر استخدام اسم وصورة وهميتين.
ويلفت، في حديث مع "العربي الجديد"، إلى أن استطلاعاً للرأي أجري أخيراً من قبل أحد المراكز البحثية المعنية بشؤون الإعلام في بغداد، يدعم هذه النسبة، إذ تبيّن أنّ أكثر من 50 في المائة من العراقيين يفضلون كتابة آرائهم السياسية والتعليق على الأحداث بأسماء غير أسمائهم، خوفاً من الملاحقة التي تتعدد مصادرها ولا تقتصر على السلطات فقط، بل من الجهات المسلحة، ومن العشائر وحتى على مستوى الافراد، والمسؤولين المحليين والمتنفذين". ويقرّ المسؤول، الذي رفض الكشف عن هويته، بحاجة البلاد إلى "قانون واضح وغير قابل للتأويل، يتعلق بحرية النشر والتعبير في العراق، لتجاوز إشكالية الملاحقات المتعددة تلك". كما يرى أن الحملة التي نفذتها الحكومة أخيراً على "المحتوى الهابط"، واستهدفت فيه صانعي محتوى "لم تكن تستند إلى بند قانوني واضح، إنما اجتهاد وتكييف بعض المواد القانونية، لافتقار العراق لقوانين عصر ما بعد الإنترنت لغاية الآن".
"عراقي"، هو الاسم الافتراضي الذي اختاره الناشط المعروف في بغداد، ع. أ. ويقول إنه يعبّر فيه عن أشياء لا يستطيع قولها من حسابه الأول الرسمي. ويضيف "في حساب "عراقي"، أتخطى الخوف وأكتب عن الفساد والسرقة، واستغلال الدين والمذهب، وعن انتهاكات حقوق الإنسان والأعراف والعادات المتخلفة، وعن الفقر والجوع والأمية، من دون أن أخشى أن يطرق بابي أحدهم ليحاسبني على ما قلت، أو تصلني رسالة تهديد على هاتفي".
لا توجد أية أرقام عراقية رسمية توثّق عدد من تم اعتقالهم أو اغتيالهم واختطافهم من ناشطي ومدوني العراق
ويبيّن لـ"العربي الجديد"، أنه يتلقى رسائل تهديد كثيرة من خلال حسابه الوهمي "عراقي"، لكنه لا يأبه بها، متسائلا "أنا لا أشتم ولا ألعن ولا أنتهك حرمة أحد، فقط أقول رأيي وما أنا مؤمن به. ولو كنت في دولة ديموقراطية يسودها القانون لما اضطررت إلى إنشاء أكثر من حساب واحد".
لا توجد أية أرقام عراقية رسمية توثّق عدد من تم اعتقالهم أو اغتيالهم واختطافهم من ناشطي ومدوني العراق، لكن الأكيد أن الأرقام تصاعدت بعد أكتوبر/تشرين الأول 2019، الذي شهدت فيه مدن جنوب ووسط العراق، انتفاضة شعبية واسعة للمطالبة بالخدمات وتحسين الأوضاع المعيشية.
ويرجح الناشط العراقي المقيم في أربيل، فراس الكناني، أن عدد من تم خطفهم وتغييبهم أو اغتيالهم يتجاوز 100 صحافي ومدون وناشر محتوى على مواقع التواصل، خلال الفترة المحصورة بين عام 2013 و2023.
ويضيف أن عدد من تم "اعتقالهم أو استدعاؤهم والتحقيق معهم بشأن تعليق أو محتوى منشور (وليس الصحافيين حصراً)، هو بالمئات بعد عام 2019، بعضهم حكم عليه بالسجن بسبب آراء سياسية وأخرى دينية"، وفقا لقوله، متحدثاً عن وجود عدد غير قليل من أصحاب الرأي تركوا مدنهم لأسباب مماثلة وانتقلوا للعيش في كردستان أو دول الجوار، "وتعتبر تركيا ولبنان وإقليم كردستان العراق، أبرز وجهات هذه الشريحة، بسبب سهولة الإقامة فيها، وانخفاض تكلفة المعيشة أيضا".
ويواجه قانون حرية التعبير عن الرأي والتظاهر السلمي، المطروح في البرلمان العراقي منذ سنوات، رفضاً واسعاً من القوى المدنية والليبرالية في البلاد، التي تعتبره واجهة للتضييق على حرية الرأي.
ووقّع في يناير/كانون الثاني الماضي، 36 نائباً في البرلمان يمثلون قوى مدنية ومستقلون على عريضة تطالب بسحب القانون، لإجراء تعديلات عليه، بحيث تتوافق بنوده "مع مبادئ حقوق الإنسان والحريات العامة المنصوص عليها في الدستور".
البرلمان يستعد مرة أخرى لمناقشة قانون جرائم المعلوماتية
وأصدرت رئيسة حركة "الجيل الجديد"، المدنية والنائبة في البرلمان سروة عبد الواحد بياناً سابقاً وصفت فيه قانون حرية التعبير عن الرأي والتظاهر السلمي، بأنه "ديكتاتوري ويكمم الأفواه"، داعية الصحافيين والناشطين العراقيين إلى "منع تمريره".
وإلى جانب قانون "حرية التعبير عن الرأي والتظاهر السلمي"، فإن البرلمان يستعد مرة أخرى لمناقشة قانون جرائم المعلوماتية، الذي يعتبره الناشط وعضو التيار المدني العراقي، أحمد حقي "الأخطر"، مبيناً أن "القانون يستهدف بشكل رئيسي المدونين وصانعي المحتوى". ووفقاً لحقي، فإن القانون "يحتوي على فقرات وبنود تسمح للسلطات بتفسيرها وتكييفها حسب ما تقتضي المصلحة، أو لنقل حسب ما تقتضيه مصلحة الأحزاب السياسية الحاكمة".
ونهاية نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، قالت وزيرة الاتصالات هيام الياسري التابعة لـ"حركة عطاء"، التي يتزعمها رئيس هيئة الحشد الشعبي فالح الفياض، في بيان: "نتقدم بالشكر والامتنان لمجلس النواب العراقي، لاستجابتهم بتشريع قانون (جرائم المعلوماتية) لما يمكن أن يعود به ذلك من تنظيم لوسائل التواصل الاجتماعي التي تسودها الفوضى حالياً، حتى يكاد يتفرد العراق نسبةً لدول العالم في التأخر بتشريع هذا القانون".
والقانون المثير للجدل موجود في البرلمان منذ عام 2011، إبان حكومة نوري المالكي، وقد قوبل برفض واعتراضات كبيرة من قبل الناشطين والقوى المدنية العراقية، بسبب احتوائه على فقرات وبنود قابلة للتأويل وتحدّ من حرية التعبير. وأدت هذه الاعتراضات إلى تأجيله أكثر من مرة على مدى الدورات الانتخابية الماضية، لكن التوجه لقراءة القانون داخل البرلمان يعتبر خطوة متقدمة قد تنذر بتمريره.
ويتضمن قانون جرائم المعلوماتية أكثر من 20 مادة أدرجت تحتها فقرات عدّة، نصت جميعها على عقوبات متفاوتة تصل للحبس 30 عاماً، وغرامات مالية تصل إلى 100 مليون دينار عراقي. وركّزت تلك الفقرات على المعلومات الإلكترونية، وجعلتها في دائرة الخطر والمساس بأمن الدولة.
ومن أبرز الانتقادات الموجهة إلى القانون المطروح هو منح السلطات إمكانية محاكمة المدونين على قضايا مثل إنشاء حسابات إلكترونية بأسماء غير الأسماء الحقيقية لأصحابها، وعدم التفريق بين الانتقاد والسب للشخصيات العامة والمؤسسات، وكذلك تقييد الوصول للمعلومات وحق نشرها، خصوصاً في ما يتعلق بقضايا الفساد، وإلزام من يريد التظاهر بإخطار السلطات قبل يوم على الأقل وانتظار الموافقة من عدمها مع عقوبات مترتبة على المخالفين.
في الثامن من مايو/أيار من العام الماضي، أصدرت منظمة هيومن رايتس ووتش، بياناً قالت فيه، إنّ البرلمان العراقي "قرر عدم المضي في عرض مسودة قانون جرائم المعلوماتية، وذلك بعد لقاء لرئيس البرلمان محمد الحلبوسي مع عدد من سفراء الدول الأجنبية وممثلي منظمات دولية وحقوقية مختلفة"، واعتبرت المنظمة ذلك "انتصاراً لحرية التعبير على الإنترنت في العراق".
وذكرت المنظمة في بيان لها أن البرلمان العراقي قال إنه سيتوقف عن عرض مشروع قانون الجرائم الإلكترونية، إلى "ما بعد تعديله، بحيث يحمي حرية التعبير بدلا من التعدي عليها"
وأضافت المنظمة أن القانون كان سيسمح للسلطات العراقية بمقاضاة أي شخص يكتب على وسائل التواصل الاجتماعي أو ينشر على الإنترنت لا يتوافق مع رؤية السلطات، من خلال اعتبار المحتوى تهديدا تعسفيا للمصالح الحكومية أو الاجتماعية أو الدينية.
وأكدت هيومن رايتس ووتش أن مشروع القانون يضع "إمكانية معاقبة المعارضة في المجتمع المدني"، كما اقترح مشروع القانون فرض قيود خارجية على الاتصالات الإلكترونية.
وقالت المنظمة إنها "عارضت مشروع القانون باستمرار لقدرته على قمع المعارضة"، مضيفة "لم تقدم الحكومة بعد نسخة معدلة من القانون إلى البرلمان، وستواصل هيومن رايتس ووتش مراقبة هذا الأمر وجميع المبادرات الأخرى التي تهدف إلى خنق حرية التعبير، وهو أمر ضروري لإبقاء الجمهور على علم وأمان".
لكن النائب عن التحالف الحاكم في العراق، "الإطار التنسيقي"، كريم عليوي، قال لـ"العربي الجديد"، إن تحالفه ما زال داعماً لتمرير القانون كما هو، مضيفاً في اتصال عبر الهاتف معه، أن "القانون يستهدف الابتزاز والتسقيط الذي تمارسه جهات داخلية وحتى خارجية من خلال دفع بعض الأشخاص في الداخل"، وفقاً لقوله.