شيءٌ عن الشرعيَّة المستقبليَّة للسلطة السياسيَّة

آخر تحديث 2023-12-06 17:46:01 - المصدر: واع

 أ.د. عامر حسن فياض
ميَّز افلاطون بين نوعين من المعرفة هما معرفة ظنيَّة ومعرفة يقينيَّة، فالمعرفة الظنيَّة هي المعرفة بعالم الاشياء المادية وهي التي تأتينا من خلال الحواس وتتعلق هذه المعرفة بالمظهر وتتصف بالتغيير، أما المعرفة اليقينيَّة فهي التي تأتي من خلال العقل، وهي معرفة بعالم المثل وتتميز بالثبات وترتبط بالحقيقة، وافلاطون يحدد وسيلتين لاكتساب المعرفة هما العقل والحواس.
وقد ذهب (برتراند راسل) إلى توضيح وشرح الإطار المعرفي الأفلاطوني إذ يرى بأننا ندرك الخشونة والنعومة من خلال اللمس، ولكن العقل هو الذي يحكم على أنّهما موجودتان وانهما متناقضتان، فقط العقل يمكنه الوصول إلى الوجود، ولا يمكننا الوصول إلى الحقيقة اذا لم نصل إلى الوجود، ومن ثمَّ لا يمكننا معرفة العالم الحقيقي من خلال الحواس وحدها لأنّها يمكن أن تضللنا، عندها يمكن القول، إن المعرفة تتكون من التفكير، وليس من الانطباعات، والادراك ليس معرفة.
وقد أعدَّ أرسطو، وهو التلميذ الأبرز لأفلاطون، أن الافكار والاشكال لا يمكن فصلها عن الاشياء المادية، والمعلومات الحسيَّة، ولا يتم إنشاء المعرفة بداهة وليست فطريّة بل يتم إنشاؤها من خلال واجهتنا الحسيّة مع العالم الحقيقي، وتتم معالجتها أخيراً بواسطة أذهاننا، وقد تابع (جون لوك) هذا النهج مؤكداً أنّ الأشياء موجودة في العالم الخارجي وأن إدراكنا الحسّي هو أهم مصدر لمعرفتنا. وفي التناقض الحاد مع الثنائية الديكارتية بين العقل والجسد أنشأ الموروث الفكري الياباني القائم على البوذية والكونفوشيوسية منظوراً متكاملاً للعقل والجسد مع ثلاث مقدمات شاملة هي وحدانية الانسانية والطبيعة، ووحدانية الجسد والعقل، ووحدانية الذات والآخر.
إنَّ العلاقة بين المعرفة والسلطة هي علاقة غير جديدة أو طارئة، بل هي علاقة قديمة غير أن إشكالية هذه العلاقة هي إشكالية حديثة.
 فمنذ أن أعلن (ديكارت) عن الحاجة أن نكون سادة على الطبيعة ونتمكن منها عبر امتلاك المعرفة، تم الاهتمام بهذا النمط من التفكير حيث لم تعد بعد ذلك المعرفة معرفة من اجل المعرفة بل معرفة تمكننا من السيطرة لتصبح قوة تمكين ونفوذ وسيطرة اي سلطة.
وسلطة المعرفة هي السلطة التي تعتمد بشكل واسع على المعرفة وفق المنظور الشامل للمعرفة والتي يكون عمادها يستند إلى القاعدة العلمية والتكنولوجية والتي تستند اليها السلطة للوصول إلى اهدافها وتفصيلاتها بحيث لا تجبر السلطة على استخدام العنف والإكراه والقمع لتحقيق تلك التفضيلات.
عندما دخل العالم في عصر الثورة الثالثة (ثورة الاتصال والمعلوماتيَّة) متخطياً من خلالها الثورتين السابقتين (الثورة الزراعية والثورة الصناعية)، فإن علامة الثورة الثالثة هي التحولات العميقة التي شهدتها كل نواحي الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية.
وهنا اصبحت السلطة والمعرفة احدى المفاهيم التي اخترقها هذا التحول وأعاد تركيبها من جديد في انفصال عن المفهوم التقليدي الذي كان يشرح معيار العلاقة بين السلطة والمعرفة سابقاً.
 وحسب تقديرات (الفين توفلر) في كتابه (تحول السلطة على اعتاب القرن الحادي والعشرين) فإن تطور المعارف وزيادة اتصال الافراد وتمتعهم بالتطور التكنولوجي عدل مفاهيم السلطة والمعرفة، فبات ينظر إلى زوال نفوذ مؤسسات السلطة السياسية على ضبط التدفقات المعرفية وكذلك المؤسسات التي تنتج المعرفة، ويركز توفلر في تعريفه للسلطة على تراكيب يراها ركائز للسلطة هي القوة والثروة والمعرفة، وان السلطة لا يمكن قياسها كمياً، بل يجب أن تدرس على اساس نوعي، فالقوة واستخدام الثروة من الناحية النوعية من الممكن أن يسبب الضعف للسلطة بسبب عدم مرونتها، لأنها قد تسبب مقاومة للسلطة.
أما الثروة فإن حالها افضل قليلاً من القوة والعنف لتمتعها بمرونة افضل، حيث يمكن استخدامها للمكافآت، فضلاً عن استخدامها للتهديد بالعقاب؛ لذا فهي نوعية متوسطة، اما المعرفة فهي أعلى نوعية من نوعيات ركائز السلطة، فهي التي تعد أهم المقومات الجاذبة للقوة والثروة، وهي التي تلعب دور المضاعف للقوة والثروة، والدولة التي تمتلك المعرفة تسطيع أن تستخدمها لفعل ما ترغب به (التهديد – الارغام – الاقناع – العقاب – المكافأة – جعل العدو صديقاً....الخ) بطريقة اكثر مرونة وأقل تكلفة، لذا يمتلك الحد الاقصى من السلطة أولئك الذين هم قادرون على استخدام الركائز الثلاثة للسلطة (القوة – الثروة – المعرفة) من خلال مزجها بمهارة.
إنَّ تعاظم دور التكنولوجيا والمعلومات ادى إلى ظهور تصورات تشير إلى أن القرن الحادي والعشرين، هو قرن المعرفة، وقرن القوى العاملة، لما لهذه القوى من دور في استخدام وتشكيل وانتاج المعرفة، وان هذا القرن هو قرن التحول الجديد في بنى السلطة السياسية ونوعيتها لتصبح حكومة معلوماتية تتركز بيد من يمتلك المعرفة ويتحكم بها، وان اقتصار المعرفة اصبح اليوم الشكل الاكثر تعبيراً عن قوة المجتمعات والدول التي تبحث لها عن مكان تحت شمس المستقبل لتحل المعرفة محل الاسلحة كمتغير مهم لتمثيل قوة الدول وعامل أساس لفرض إرادتها وتحقيق أهدافها.