فيصل القاسم
لو أردت مثلاً أي كتاب عن العادات الاجتماعية لأي طائفة في الشرق الأوسط، فبالتأكيد ستجد منه نسخة في المكتبات الإسرائيلية، ففي إسرائيل لا يتركون شاردة أو واردة عن بلادنا العربية سواء كانت دينية أو اجتماعية أو ثقافية أو سياسية أو اقتصادية إلا ويجمعون حولها المعلومات والبحوث ويدرسونها دراسة عميقة. لماذا؟ لأنهم يعتبرون أنفسهم في حالة حرب وصراع وعداء مع المحيط العربي من المحيط إلى الخليج، وبالتالي فهم يعملون بمقولة: «اعرف عدوك» الشهيرة. على العكس من ذلك، هل تستطيع أن تذكر عدد مراكز البحوث التي تُعنى بالشأن الإسرائيلي فيما يسمى بدول الطوق المحيطة بإسرائيل وتعتبر نفسها في حالة صراع معها منذ عقود وعقود؟ هل تعرف اسم مركز بحوث واحد في دمشق مثلاً التي يحكم نظامها البلاد منذ نصف قرن تحت شعار «لا صوت يعلو فوق صوت التصدي لإسرائيل»؟ بالمشمش طبعاً. ماذا يعرف العرب عن إسرائيل؟ القليل القليل طبعاً، لهذا غالباً ما يكون تقييمهم لها ولقدراتها سطحياً وسخيفاً، مما ينتج عنه استنتاجات كارثية غالباً ما تؤدي إلى كوارث عسكرية وغير عسكرية.
منذ عقود وعقود مثلاً ونحن نسمع المحللين والباحثين الاستراتيجيين العرب وهم يتحدثون عما يسمونه بـ«هشاشة الكيان الصهيوني» وأن إسرائيل كيان هش بهشاشة بيت العنكبوت. وبالمناسبة قدم تلفزيون المنار التابع لحزب الله برنامجاً وثائقياً بعنوان «أوهن من بيت العنكبوت» لسنوات وسنوات، وكان هدفه دائماً السخرية من قوة إسرائيل والاستهانة بها، مما أوحى لنا بأن ساعة الصفر قادمة في يوم قريب لإزالة إسرائيل عن الخارطة خلال ساعات، لكن عندما دقت ساعة العمل، اكتشفنا فجأة أن بيت العنكبوت ليس إسرائيل، بل الطرف العربي، فلم يحدث في تاريخ الحروب أن العدو استطاع أن يصطاد كل القادة العسكريين في المعسكر المعادي كما استطاعت إسرائيل أن تصطاد قادة الحزب في لبنان، لا بل إن البعض تندر على هذا التطور التاريخي بالقول: «إن اصطياد العصافير في لبنان أصعب من اصطياد واختراق قادة الحزب» الذين قتلتهم إسرائيل تباعاً خلال فترة قياسية، ثم أكملت المهمة باغتيال الأمين العام السيد حسن نصرالله قبل أيام. وقد بدت عمليات الاغتيال الإسرائيلية كما لو أنها مشهد في لعبة «بلاي ستيشن» لشدة سهولتها وبساطتها. ولا ننسى قبلها عملية تفجير أجهزة الاتصالات في أيدي الألوف من عناصر وقادة الحزب قبل أسابيع قليلة، مما أدى إلى كارثة حقيقية.
لا أدري لماذا تستهويهم لعبة التقزيم والتقليل والاستهانة بعدوهم وهزائمهم وأرواح عشرات الألوف من شهدائهم ومصابيهم وخسائرهم الفادحة، بينما عدوهم يتقدم على كل الأصعدة وهم ينهارون، الدولة تلو الأخرى.
وبالرغم من الهزائم المتكررة الرهيبة التي مُني بها العرب في حروبهم مع إسرائيل منذ حرب ثمانية وأربعين حتى الآن، فلم يتغير شيء في نظرتهم وتقييمهم للقوة الإسرائيلية، فما زالوا يضحكون على الشعوب ويوهمونها بأن إسرائيل قاب قوسين أو أدنى من الانهيار، بينما على أرض الواقع انهارت معظم العواصم العربية في المنطقة، فيما تزداد إسرائيل تطوراً وقوة على كل الأصعدة العسكرية والاقتصادية والتكنولوجية والعلمية، وباتت تحارب أعداءها اليوم بوسائل لم تكن تخطر على بال الشياطين، وآخرها طبعاً تفجير أجهزة «البيجر» في أيدي الآلاف من مقاتلي وقادة حزب الله. مع كل ذلك، تجد الكثيرين اليوم في مواقع التواصل من مثقفين وإعلاميين عرب يقتبسون مقاطع مع وسائل الإعلام الإسرائيلية ليثبتوا أن إسرائيل على وشك الانهيار، وهو تقليد درج عليه بعض العرب منذ عقود، فهم يقرأون بعض الصحف الإسرائيلية ثم يقتطعون جملة هنا وجملة هناك من هذا الكاتب الإسرائيلي أو ذاك تكشف مكامن الضعف والهشاشة في المجتمع الإسرائيلي، ثم يستخدمونها كدليل على اقتراب سقوط إسرائيل. لكم المضحك أننا لم نر أبداً على أرض الواقع أي تطورات ملموسة تشير إلى أن إسرائيل أوشكت على نهايتها. لا أدري لماذا غاب عن ذهن بعض الكتاب العرب الذين يهللون لانهيار عدوهم أن الإعلام الإسرائيلي لديه مساحة حرية كبيرة، وبإمكان الصحافيين والكتاب الإسرائيليين أن يفضحوا كل النقائص والعيوب في مجتمعهم لتصحيحها وتصويبها.
ولم تقف عملية التضليل والتجهيل والتعتيم التي مارسها بعض العرب في تناولهم للشأن الإسرائيلي عند التقليل من قيمة إسرائيل وقوتها في المنطقة، بل راحوا يقللون أيضاً من حجم الكوارث والهزائم التي أنزلها الإسرائيلي بالأطراف العربية. لا قيمة للبشر في الخطاب التعبوي العربي لا بالأمس ولا اليوم، فهم يعتبرون مجرد التصدي لإسرائيل نصراً كبيراً حتى لو كانت نتيجته عشرات الألوف من الضحايا، وملايين المشردين وتدمير مدن بأكملها، مع ذلك تسمع بعض المهرطقين وهم يقولون إن نتنياهو فشل في تحقيق أي هدف من أهدافه. يا إلهي، ماذا تريده أن يفعل بك أكثر مما فعل؟ والأنكى من ذلك أن تسمع «محللاً» استراتيجياً لبنانياً وهو يقول بالفم الملآن: « إن عدد القتلى الذين سقطوا في القصف الإسرائيلي بين قتيل وجريح على جنوب لبنان بضعة آلاف فقط». لاحظوا التركيز على كلمة «فقط» في تحليل ذلك المحلل. لا أدري لماذا تستهويهم لعبة التقزيم والتقليل والاستهانة بعدوهم وهزائمهم وأرواح عشرات الألوف من شهدائهم ومصابيهم وخسائرهم الفادحة، بينما عدوهم يتقدم على كل الأصعدة وهم ينهارون، الدولة تلو الأخرى، والشعب تلو الآخر؟