في خضمّ متاهات السياسة الدولية، حيث تتغير التحالفات وتتبدل الموازين بقدر ما تتغير الأهواء، يقف بشار الأسد شاهداً على سقوط إمبراطوريات وهمية، وانهيار أبراج عاجية مبنية على الرمال. فبعد أن كان يتربع على عرش سلطته مطمئناً إلى دعم حلفائه، وجد نفسه وحيداً في مواجهة عاصفة تغييرات جذرية هزت أركان نظامه. فالأسد، الذي اختار مسار التصلب والمكابرة، ظل عاجزاً عن إدراك الدروس السياسية التي تفجرت أمامه، رغم مئات الأمثلة التي كان من الممكن أن تلهمه للمراجعة والبحث عن مصالحة مع واقع متغير.
لقد أثبتت تجربة الزعماء الذين سبقوه أن الجمود السياسي ليس خياراً مستداماً، وأنه لا بد من الاستجابة للتغيرات الإقليمية والدولية لضمان البقاء السياسي والنفوذ. الأسد، مثل غيره من القادة الذين حكموا بالحديد والنار، تملكه غرور القوة، فأصبح أسيراً لهذا السلوك الذي يتخيل فيه أن التفوق العسكري، والتصريحات الإعلامية، والرهانات الإقليمية وحدها كفيلة بإعطائه شرعية دائمة في الحكم.
لقد كانت مصافحة أردوغان فرصة ذهبية للأسد لإنقاذ ما تبقى من نظامه، فرصة لإعادة بناء جسور الثقة مع الجوار العربي، فرصة للخروج من عزلة دولية خانقة. ولكن الأسد، بدعواه الثبات على المبادئ، رفض هذه الفرصة، متمسكاً بعنجهية السلطة التي أعمت بصيرته عن رؤية الصورة الكبيرة. لقد كان يرى في أردوغان عدواً لا بد من هزيمته، متناسياً أن السياسة ليست حرباً أبدية، وأن المصالح المشتركة قد تتطلب التنازل عن بعض المبادئ.
لو كان الأسد قد استجاب في اللحظة المناسبة لمصافحة أردوغان، لكان بمقدوره، من خلال تلك البادرة البسيطة، أن يفتح باباً للحفاظ على وجوده السياسي في الساحة الدولية. لكن، في تلك اللحظة التي كان فيها قاب قوسين أو أدنى من الإنقاذ، بقي متمسكاً بمواقف أيديولوجية، غير قادر على رؤية الصورة الأكبر أو على اتخاذ خطوة استراتيجية جريئة في التوقيت الصحيح. فهو لم يتعلم من أخطاء زين العابدين بن علي في تونس، أو معمر القذافي في ليبيا، أو حسني مبارك في مصر، أو علي عبد الله صالح في اليمن، الذين دفعوا جميعاً ثمناً باهظاً بسبب تمسكهم بمواقف جامدة في لحظات كان من الممكن فيها التغيير. هؤلاء القادة الذين انتهت مسيرتهم السياسية في صورة مأساوية، كانوا مثل الأسد، يعيشون في فقاعة من الغرور السياسي، حيث كانت القوة العسكرية والرؤية الضيقة هي المعيار الوحيد للحكم.
تجاهل الأسد لحكمة "المصافحة" لم يكن مجرد فشل سياسي بقدر ما كان إنكاراً لعوامل التوازن الإقليمي، وهي عوامل تجبر حتى القوى الكبرى على التفاعل والتنازل في بعض الأحيان. من هنا، نرى أن التحالفات في السياسة ليست ثابتة، بل هي مرنة وقابلة للتحول، كما حدث في العلاقات بين تركيا وسوريا، التي شهدت سنوات طويلة من التوتر والصراع. وفي الوقت الذي كان الأسد يراهن على استمرار سيطرته على الأرض بقوة السلاح، كان الواقع السياسي في المنطقة يشهد تفاعلات جديدة قد تقلب موازين القوى لصالحه إذا ما فهمها وامتلك الشجاعة لتغيير موقفه.
أما عن العلاقة مع العراق، فإننا نرى كيف أن دمشق وجدت نفسها محاصرة بين قوتين إقليميتين متنافستين: إيران من جهة وتركيا من جهة أخرى. العراق، الذي لطالما كان مركزاً للنفوذ الإيراني في المنطقة، لم يرفع شعار الأسد مع تركيا. هذا التحول لم يكن بسبب رغبة العراق في المصالحة مع تركيا، بل بسبب إدراكه أن المجاملة مع تركيا، رغم تعقيداتها، هي الخيار الأقل ضرراً في ظل التحديات التي يواجهها العراق من جراء وجود القوات التركية على أراضيه. لا شك أن هذه الحقيقة كانت مريرة للأسد، إذ كانت إشارة صارخة على تآكل الدعم الإقليمي له.
لقد تهاوت تحالفات الأسد واحدة تلو الأخرى، وكشف الزمن عن زيف الولاءات. فإيران، التي كانت تعتبر العمود الفقري لنظامه، أصبحت عاجزة عن تقديم الدعم الكافي، وحزب الله، الذي ضحى كثيراً من أجل النظام السوري، وجد نفسه منكوباً بحرب طاحنة في فلسطين أنهت كل قياداته الأسطورية. أما روسيا، فهي تريد الانسحاب أو الانكفاء من الساحة السورية، تاركة الأسد يواجه مصيره وحيداً طالما "جيشه" يسلم مواقعه للمعارضين.
اليوم، يشهد الأسد عزلة متزايدة على المستوى الإقليمي والدولي، وسط هذا الانسحاب التدريجي للروس والإيرانيين من مشهد الحرب السورية. وعليه، يزداد الموقف تعقيداً مع استمرار تداعيات تحالفات جديدة تشهدها المنطقة. المعارضة السورية المسلحة المدعومة من تركيا في الشمال، والتي كانت في البداية قوة ضعيفة ومبعثرة، أصبحت أكثر تنسيقاً وتنظيماً. والأسد، الذي يراهن على قواته العسكرية، يجد نفسه في موقف أكثر هشاشة أمام انقضاضات خارجية.
ورغم أن الأسد عاد إلى الجامعة العربية، ورغم كل الجهود التي بذلها لترميم علاقاته مع الدول العربية، فإنه لم يستطع تجاهل واقع القوات التركية في سوريا التي اعتبرها "قوات محتلة". إلا أن الواقع السياسي المعقد، الذي يجعل من سوريا "دولة متعددة الجنسيات" في صراعها العسكري، يضع الأسد أمام حقيقة لا مفر منها، وهي أن نظامه أصبح رهينة لقوى خارجية، فالقوى الدولية والإقليمية التي تدخلت في الحرب السورية شكلت واقعاً جديداً يتجاوز بكثير حدود ما كان يعتقده الأسد في بداية الحرب. في هذا السياق، لا يمكن أن تكون "المصافحة" مع أردوغان مجرد حدث عابر، بل كانت تمثل فرصة لتغيير المعادلة بشكل جذري، وفرصة لاستعادة بعض من الهيبة والشرعية التي فقدها الأسد على الساحة الدولية.
في الوقت الذي كان فيه الأسد يتشبث بمواقفه العقيمة، كان بإمكانه تغيير مجرى الأحداث عبر خطوة بسيطة قد تكون غير كافية لإنقاذه بالكامل، لكنها كانت ستمنحه فرصاً حقيقية للنجاة في عالم تسوده السياسة البراغماتية. هذه المصافحة، لو حدثت، كانت ستفتح أبواباً جديدة للعلاقات، ليس فقط مع تركيا ولكن مع العالم العربي والإقليمي وحتى "الأعداء" بشكل أوسع. ولو أخذ الأسد بعين الاعتبار مصلحة سوريا العليا بدلاً من التشبث بمواقف متصلبة، لربما كانت سوريا اليوم في مكان مختلف، أقرب إلى السلام، وأبعد عن الحروب التي أنهكتها.
نقلاً عن معهد الدراسات الاستراتيجية