بدت ردود فعل المصريين عما حدث في سوريا متباينة تماماً (أ ف ب)
قلق غارق في التوجس، ودهشة لا تخلو من تخوف، وفرحة عارمة منزوعة القدرة وربما الرغبة في استشراف ما هو قادم، وجد فيها المصريون الملتصقون بالشاشات المتابعون لما يجري في سوريا. ملايين المصريين يتابعون الأحداث المتلاحقة المتسارعة المتصاعدة في سوريا، وكأنها أحداثهم الخاصة. أجواء المتابعة، وما ينجم عنها من اختلافات حادة في وجهات النظر، وخلافات عميقة في التوجهات، ورؤى تقف على طرفي نقيض من حيث مستقبل سوريا والمنطقة، أعادت إحياء متابعات شبيهة لم يمض على غالبها إلا سنوات قليلة.
الأمس القريب
من الغزو الأميركي للعراق وإسقاط نظام الرئيس السابق الراحل صدام حسين وإنزال تمثاله الضخم، والرقص على أنقاضه والبهجة الناجمة عن إعدامه، وما آلت إليه أوضاع العراق في ما بعد، إلى أحداث تونس في عام 2011، وإسقاط نظام الرئيس السابق الراحل زين العابدين بن علي والبهجة العارمة لـ"هربه" خارج البلاد، والاحتفاء بثورة الياسمين أو الحرية أو الكرامة، وما آلت إليه الأوضاع في تونس في ما بعد.
ومن أحداث مصر في يناير (كانون الثاني) 2011، وإسقاط نظام الرئيس السابق الراحل محمد حسني مبارك، وبهجة ملايين بإنهاء النظام الذي دام ثلاثة عقود، وما آلت إليه الأوضاع في مصر في ما بعد، إلى الهبة التي أسقطت نظام الرئيس الليبي الراحل معمر القذافي، الذي صدمت مشاهد مقتله ملايين المتابعين عبر الشاشات، لكنها لم تتسبب في صدمة أو غضبة أو غصة عميقة لدى كثيرين في ليبيا والبهجة العارمة لسقوط النظام، ثم ما آلت إليه الأوضاع في ليبيا، حيث حكومتان وبرلمانان ونظامان.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وما جرى في اليمن من "ثورة سلمية" وإسقاط نظام الرئيس السابق الراحل علي عبدالله صالح والسعادة العارمة بتحقيق المراد وما آلت إليه الأوضاع في اليمن، إلى عملية "طوفان الأقصى" التي أسعدت ملايين من العرب في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) عام 2023، ثم ما آلت إليه أوضاع المنطقة بعدها وحتى اللحظة من دك قطاع غزة وقتل وتشريد أبنائه، واغتيال قادة "حماس"، وما جرى من ضلوع وكلاء إيران وامتداد الحرب إلى جنوب ولبنان وإلى حد ما بيروت.
وأخيراً وليس آخراً سقوط النظام السوري في خلال سويعات محدودة، يلتصق المصريون بشاشاتهم كما لم يلتصقوا من قبل، وهم يقلبون بين القنوات بتوجهاتها المتنافرة ويتناقشون ويتجادلون حول ما يجري، وذكريات الماضي القريب السابقة حاضرة، لكن بتصرف.
رسمياً مصر تطالب بسوريا موحدة، البيان الصادر عن الدولة يشير إلى أن "مصر تتابع باهتمام كبير التغير الذي شهدته الجمهورية العربية السورية الشقيقة، وتؤكد وقوفها إلى جانب الدولة والشعب السوري، ودعمها لسيادة سوريا ووحدة وتكامل أراضيها".
أما البيان أو بالأحرى البيانات الشعبية، فتأتي بصور شتى، وتعبر عن نفسها بطرق أقل ما يمكن أن توصف به هو التنافر والتنابز بحسب الانتماء. إنه التنافر الذي يعكس فهماً بدرجات متفاوتة، وانتماءات متناقضة، وأيديولوجيات تراوح بين أقصى يمين الإسلام السياسي إلى أقصى يسار الليبرالية والمدنية، وما بينهما من دولة مدنية ذات مرجعية دينية، أو دولة دينية ذات ألوان مدنية.
جموع المهنئين
بين جموع مهنئين للجيران السوريين المحتفلين المحتفين بإسقاط النظام في سوريا، ورحيل الرئيس السوري بشار الأسد وأسرته، من هنأ بدافع فرحة استشعرها لدى أصحاب الشأن، فوجبت تهنئتهم، أو من منطلق معرفة بانتهاكات وخروقات ارتكبها النظام الذي سقط، أو من باب التضامن الديني والتعاضد بين المسلمين، تحديداً من أهل السنة، شعرت فئة من المصريين أن الحدث يستوجب الفرحة.
قليلون في الشارع المصري على علم بأصل وتاريخ "هيئة تحرير الشام"، أو حكاية وخلفية قائدها أبو محمد الجولاني. بعض أولئك الذين تصل إلى مسامعهم كيف بدأ الجولاني مقاتلاً في صفوف تنظيم القاعدة ضد أميركا في العراق خلال الغزو الأميركي، وذلك قبل القبض عليه وسجنه في سجون أميركية بالعراق، تبدو ملامح الارتياح على وجوههم لدى سماع هذه التفاصيل. ارتياح يتحول إلى دهشة غير معلومة الدوافع بتواتر بقية التفاصيل.
الجولاني و"هيئة تحرير الشام"، تلك "المعارضة المسلحة التي أسقطت الظلم والطغيان" كانت حتى سنوات قليلة جداً مضت هي نفسها "جبهة النصرة" المولودة من رحم تنظيم القاعدة، والمعتنقة أحد أكثر المناهج الإسلامية السلفية تشدداً، التي خاضت صولات وجولات مع غيرها من الميليشيات والفصائل المسلحة حروباً ضارية في الحرب الأهلية في سوريا، ثم خضعت لـ"نيو لوك" بتغيير الاسم وتبديل المظهر لتقدم نفسها مجموعة معارضة معتدلة تعمل من أجل إسقاط النظام الغاشم، وإقامة نظام غير غاشم، بل وطمأنة الأقليات والدعوة إلى الحب والسلام والوئام جميعها يؤدي لدى قطاع من المصريين من غير جيوش محللي جماعات السلفية أو الخبراء في حركات الإسلام السياسي إلى تمتمات تؤكد التهاني وتجزم الأماني.
مجموعات الـ"واتساب" التي ينشئها بعض من أصحاب المحال التجارية من السوريين المقيمين في مصر لزبائنهم من المصريين عامرة، إما بتبادل التهاني أو بالتراشق بالأيديولوجيات.
تبادل التهاني يجري بناء على احتفاء بعض من أصحاب المحال والأنشطة التجارية أنفسهم بسقوط النظام، والفرحة بالقادمين الجدد. من يوجهون التهنئة من المصريين لا يبذلون جهداً في تخبئة أفكارهم الأصولية أو انتماءاتهم الدينية التي لا ترى في الجماعات والميليشيات المسلحة ضرراً ما دامت تحارب باسم الدين ولنصرة المتدينين، أو ببساطة لأن صاحب المحل سعيد، وقواعد الذوق تحتم المجاملة في الفرح والترح.
تبادل المجاملات في هذا السياق، الذي تتداخل فيه تهاني سقوط النظام بأماني أن "يتحقق الخير نفسه في سائر بلاد الإسلام"، وينعم بالنتيجة نفسه "سائر المسلمين" لا تدع كثيراً من الوقت للتدقيق في الصور الواردة والتمعن في الفيديوهات المتواردة.
إسقاط أو سقوط أو تساقط علم الجمهورية العربية السورية بألوانه الأحمر والأبيض والأسود، ورفع العلم ذي الألوان الأخضر والأبيض والأسود المنسوب إلى "الثورة السورية" أو "الجيش السوري الحر" أو "الائتلاف السوري المعارض" أو "هيئة تحرير الشام" أو كل ما سبق، لم يسترع انتباه الغالبية من المهنئين، سواء على قروبات أنشطة السوريين التجارية في مصر، أو صفحات اهتمامات ومشكلات سكان العمارات التي يقطنها مصريون وسوريون وغيرهم من الجنسيات، لكنه استرعى اهتمام الغالبية من المداومين على النشاط العنكبوتي.
عنكبوتياً بدت ردود فعل المصريين مختلفة تماماً عن تهاني الغروبات التجارية وصفحات مشكلات اتحادات الشاغلين ومجالس إداراتها، هذه الآونة تعاود نكهات الاختلافات الأيديولوجية وروائح خلافات الانتماءات السياسية الظهور بعد سنوات من الخفوت والمواراة.
إنها الأقلية النشطة على الأثير والممسكة بتلابيب السياسة أو جلباب الدين أو كليهما، إذ تزخر منصات السوشيال ميديا بثلاثة أنواع من المصريين المهتمين بما يجري في سوريا. النوعان الأول والثاني فرحون متهللون مبتهجون مستبشرون، والثالث مبتئس مكتئب ممتعض متشائم.
اللافت، لكن ليس الغريب، في الأمر أن النوعين الأول والثاني يقفان على طرفي نقيض. الأول هم الإسلاميون المعتنقون لنهج خلط الدين بالسياسة، والإسلام بالدولة، وعلماء الدين برجال السياسة. والثاني هم بعض من الليبراليين أو الثوريين أو اليساريين أو مجرد مؤمنين بالحرية والتحرر من الطغيان، بغض النظر عما يحدث بعد الحرية أو من يحكم بعد التحرر.
التجمع المتناقض لافت، لأنه يجمع من يفترض فيهم التنافر، لكنه تنافر شهده المصريون قبل سنوات قليلة مضت، وفي أحداث وحوادث عدة. فمن وحدة الأضداد من الثوار من الإسلاميين والثوريين واليساريين والمثقفين في الميدان في عام 2011، إلى تصويت قطاع من أهل اليسار بمن فيهم أقصى اليسار لمرشح جماعة الإخوان المسلمين، وذلك من باب درء الخصم المشترك وتوحد جهود مجابهة الاستبداد، والثقة في أن الصديق اللدود أهل ثقة، ويؤمن بالديمقراطية، ويجاهد من أجل تداول السلطة.
الجمع المتناقض
هذا الجمع المتناقض في مصر أدى إلى فقدان بعضهم الثقة في كلا الطرفين: الإسلاميين من جهة، والمتحالفين معهم من اليساريين والليبراليين والمثقفين من جهة أخرى، لكنه أدى كذلك إلى اقتناع قطاع آخر من المصريين بإمكان حدوث هذا التحالف بين الأضداد، وذلك على رغم تكرار ما سماه الطرفان بـ"نكوص العهد" غير مرة. هذه الخلفية تبدو واضحة جلية في تفاعلات المصريين، في شأن ما يجري في سوريا.
"ألف مبروك للسوريين وكل الدول العربية ما تحقق من نصر في سوريا. لا يهم تحقق النصر على يد من. المهم أن سوريا انتصرت، والسوريون تحرروا. هذا اليوم الأجمل سيحفر في تاريخ كل عربي". "مبروك؟ تحرر؟ كل الدول العربية؟ عن أي نصر تتحدث؟ هل فقدت عقلك؟ سوريا تنتصر؟ أم أن القاعدة تتقدم والتطرف يتمدد، وأميركا وإسرائيل تضمنان مزيداً من الحضور في قلب الدول العربية. المؤكد أن هذا اليوم سيحفر في تاريخ كل عربي، لكن باعتباره تاريخاً أسود من قرن الخروب (حالك السواد)".
"نفرح اليوم، ونفكر غداً في ما سيحدث. من حقنا أن نفرح. مبروك لسوريا ولكل السوريين". "نفرح اليوم، ونفكر غداً؟ على أساس أن من يعتنق منهج القاعدة سيسمح لك بالتفكير؟ هذا هو الهبل نفسه الذي كادت مصر تسقط فيه في عام 2012 حين تحالف الإسلاميون المنتفعون مع الثوريين السذج". ويمضي أثير الـ"سوشيال ميديا" حاملاً ومتحملاً تضارب الآراء وتباين المواقف وتناقض التحليلات بين جموع المصريين، جراء سقوط النظام في سوريا على يد "هيئة تحرير الشام".
معاودة الظهور الواضح في مصر على أثير منصات الـ"سوشيال ميديا" للأتباع أو المتعاطفين أو المؤكدين أنهم ليسوا إخواناً، لكن يحترمونهم أو يدعمونهم، ربما دفعتهم الفرحة العارمة لسقوط نظام الأسد على يد جماعة معارضة إسلامية سنية، أو تشجعوا بقرار محكمة الجنايات المصرية الصادر قبل أيام برفع أسماء 716 شخصاً من قوائم الإرهاب، غالبهم من المنتمين للإخوان وجماعات الإسلام السياسي.
هذا الظهور أغضب وأقلق فريقاً آخر من المصريين، وهو ما يبدو واضحاً عبر التدوينات والتدوينات المضادة. أثير الـ"سوشيال ميديا" إلى حد كبير، ومناقشات الشارع إلى حد ما تعكس اختلافات في التوجهات، لكن تمسك الغالبية على اختلاف مكوناتها بالروح الوطنية المصرية المدعومة بجيش مصري غير طائفي.
جانب من هذا التمسك سببه ما تحاول قنوات محسوبة على جماعة الإخوان المسلمين تبث من خارج مصر، وتنشط هذه الآونة في تكثيف هجومها على مصر وقيادتها ومؤسساتها الوطنية. ومنها ما يبذل جهوداً ضارية لعقد مقارنات أو رسم مقاربات بين مصر وسوريا في الشأن السياسي، وهو ما يصفه بعض منهم بـ"الصيد المعتاد في مياه الأحداث الإقليمية العكرة".
الجانب الآخر يكمن في قناعة واضحة بأن صعوبة الأوضاع الاقتصادية وقسوة الظروف المعيشية وغيرها من المنغصات، لا ينبغي الزج بها لصالح جماعات الإسلام السياسي على وقع الأحداث في سوريا.هذه الأحداث أعادت فتح باب اللاجئين و"الضيوف" السوريين المقيمين في مصر، الذين قصدوها هرباً من ضراوة الحرب الأهلية في سوريا على مدار ما يزيد على عقد. مرة أخرى، انقسم المصريون قسمين: الأول عبر عن قلقه من مغادرة "الأخوة السوريين" مصر والعودة لبلدهم، من دون الإفصاح عن سر الشاورما ومكونات الثومية، والثاني عاود التعبير عن قلقه أو ضجره من الوجود كثيف العدد لـ"الضيوف"، مشيراً إلى أن الوقت حان لعودتهم من دون التقيد بالإفصاح عن هذا السر أو هذه التركيبة.