هجوم نيو أورلينز يدفع صناع القرار في أميركا إلى إعادة ترتيب الأولويات

آخر تحديث 2025-01-02 16:00:06 - المصدر: اندبندنت عربية

عدد مؤيدي "داعش" في الولايات المتحدة وإن كان صغيراً إحصائياً، إلا أن تصرفاتهم كان لها تأثير كبير على التصور العام والسياسة الحكومية (أ ف ب)

في الساعات التي أعقبت هجوم نيو أورلينز وتكشفت ملابسات الحادث الدموي الذي أدى إلى مقتل وإصابة عشرات الأميركيين، أطل تهديد الإرهاب برأسه من جديد ليعيد ترتيب أولويات الرئيس المنتخب دونالد ترمب الذي يستعد لتولي السلطة في البيت الأبيض بعد أقل من ثلاثة أسابيع. فكيف يمكن أن يؤثر الهجوم الدموي في ليلة رأس السنة في سياسات ترمب الداخلية والخارجية وبخاصة موقفه من حجم ودور مكتب التحقيقات الفيدرالي، ومن الوجود العسكري الأميركي في سوريا والعراق لمواجهة تنظيم "داعش"؟ 

تباين الاهتمامات

وسط الحديث عن ثغرات الإجراءات الأمنية التي سمحت بوقوع هجوم نيو أورلينز، وتحديد تفاصيل أكثر عن شمس الدين جبار الذي قال مكتب التحقيقات الفيدرالي (أف بي آي) إنه المسؤول عن الهجوم المميت على شارع بوربون بالحي الفرنسي، تباينت اهتمامات الرئيسين جو بايدن ودونالد ترمب بشأن الهجوم، ففي الوقت الذي اعتبر فيه بايدن أن منفذ الهجوم استوحى عمليته من تنظيم "داعش" وأنه عبر في مقاطع فيديو عن رغبته في القتل بحسب تأكيدات مكتب التحقيقات الفيدرالي، استغل ترمب الهجوم، وبدا وكأنه يُحَمِل من وصفهم بالمجرمين الأجانب مسؤولية الحادث ويربطه بالهجرة غير الشرعية على رغم ما اتضح لاحقاً بأن شمس الدين جبار مواطن أميركي مولود في الولايات المتحدة ويقيم في تكساس، وخدم في الجيش الأميركي لأعوام عدة.

لكن رسالة ترمب التي بدا أنها تتسق إلى حد بعيد مع أجندته المعلنة في الانتخابات الرئاسية والتي ركزت على طرد ملايين المهاجرين غير الشرعيين من أميركا ومعالجة التهديد الذي تمثله الصين، إلا أنها لم تكن الرسالة المتوقعة من الإدارة المقبلة للعام الجديد بعد هذا الهجوم، بل إن رسالة أخرى أطلقها سيباستيان غوركا الذي كلفه دونالد ترمب بقيادة جهود مكافحة الإرهاب، كانت أقرب للواقع وللسياسة التي يمكن أن تتخذها الإدارة الجديدة إذ وجه غوركا خطابه للأميركيين بعد حادث نيو أورلينز قائلاً: "أنتم الآن على خط المواجهة في الحرب ضد الإرهاب".

تغير الجغرافيا السياسية

مع العثور على علم "داعش" في الشاحنة التي نفذ بها شمس الدين جبار عملية الدهس في واحد من أهم المعالم السياحية في نيو أورلينز، وتكثيف مكتب التحقيقات الفيدرالية العمل من أجل تحديد ارتباطاته وانتماءاته المحتملة مع المنظمات الإرهابية، تحول المشهد في الولايات المتحدة باتجاه آخر حيث أراد منفذ الهجوم الذي تحول للإسلام أخيراً بحسب أقربائه، أن يظهر تحالفه مع "داعش" من خلال حمل علمه، بخاصة وأن شارع بوربون، بحاناته الشهيرة ونوادي التعري، يرادف ثقافة يعارضها تنظيم "داعش" وغيره من الجماعات المتطرفة.

وربما كان شمس الدين جبار يأمل في تحريض الآخرين على اتباعه كما يقول كولن كلارك محلل مكافحة الإرهاب في مجموعة "صوفان"، وهي شركة استشارات أمنية مقرها نيويورك.

وحتى يوم الأربعاء الماضي، كان مشهد التهديد الإرهابي للولايات المتحدة يبدو مختلفاً تماماً عما كانت عليه الحال عام 2017، عندما تولى ترمب منصبه للمرة الأولى، فبعد رئاسة باراك أوباما، كان تنظيم "داعش" في ذروته، إذ كان يسيطر على مناطق واسعة من الأراضي في أنحاء سوريا والعراق وينفذ عمليات خارجية في الغرب.

هجوم نيو أورلينز قد يدفع ترمب إلى التراجع عن وعوده الانتخابية (أ ف ب)

وبعد هزيمة "داعش" غير المكتملة عام 2019، توقفت الهجمات الإرهابية إلى حد كبير بحلول الوقت الذي دخل فيه بايدن البيت الأبيض بعدما كانت الهجمات التي ضربت بانتظام الولايات المتحدة وأوروبا من عام 2014 حتى عام 2019 مثيرة للقلق والاضطراب.

غير أن الجغرافيا السياسية تحولت في الأسابيع والأشهر الأخيرة، وستكون قضية مكافحة العمليات الإرهابية التي تشنها الجماعات المتطرفة على رأس قائمة أولويات إدارة ترمب.

أمور معقدة

الأمور على ما يبدو ستكون معقدة بالنسبة للرئيس ترمب، بسبب الكثير من العوامل، فقد وعد ترمب بإجراء إصلاح حكومي شامل من شأنه أن يؤدي إلى تقليص حجم ونفوذ مكتب التحقيقات الفيدرالي، وهو القرار الذي من المؤكد أنه سيشل جهود مكافحة الإرهاب، مما يستدعي منه إعادة النظر في خططه المستقبلية أو تأجيلها على الأقل لفترة من الوقت بغية عدم المغامرة بتعريض أمن الولايات المتحدة للخطر، في وقت تشير المؤشرات إلى تصاعد الأنشطة العنيفة في الداخل الأميركي وخارجه.

ووفقاً لمراجعة حديثة أجراها المركز الوطني لمكافحة الإرهاب التابع لوزارة الأمن الداخلي الأميركية منذ عام 2014، وجه مكتب "أف بي آي" ووزارة العدل الاتهام إلى أكثر من 250 فرداً بأنشطة مرتبطة بـ"داعش"، معظمها تهم فيدرالية، وكانت الغالبية العظمى من هذه المجموعة من المواطنين الأميركيين أو المقيمين الدائمين القانونيين الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و62 سنة، ولكن معظمهم أصغر سناً بكثير من منفذ الهجوم الأخير البالغ من العمر 42 سنة.

 كما أقر معظم المتهمين بالذنب قبل المحاكمة، بينما أدين بضع عشرات من قبل هيئة محلفين، ولم تخسر وزارة العدل سوى محاكمة واحدة في قضية إرهاب.

"داعش" في أميركا

ويبدو أن شمس الدين جبار العضو السابق في الجيش الأميركي، لا يشكل استثناء، حيث كانت هناك أمثلة سابقة لأفراد يدعمون "داعش" ولديهم خبرة في القوات المسلحة الأميركية، سواء في الخدمة الفعلية أو المتقاعدين، بحسب ما يقول كبير الباحثين في المركز الوطني لمكافحة الإرهاب سيموز هيوز، الذي يوضح أن الأعضاء العسكريين السابقين ليسوا أكثر عرضة للانضمام إلى الجماعات الإرهابية الأجنبية من عامة الناس.

لكن بشكل عام، فإن عدد مؤيدي "داعش" في الولايات المتحدة وإن كان صغيراً إحصائياً، إلا أن تصرفاتهم كان لها تأثير كبير على التصور العام والسياسة الحكومية. وعلى مدى العقد الماضي، أجرى مكتب التحقيقات الفيدرالي أكثر من 1000 تحقيق نشط لعناصر ترتبط بتنظيم "داعش" في جميع الولايات الـ50، كما أشار مدير "أف بي آي" كريستوفر راي في شهادة له أمام الكونغرس عام 2021، أن عدد التحقيقات بشأن المتطرفين العنيفين المحليين، يتأرجح باستمرار حول 1000 عنصر على مدى الأعوام القليلة الماضية.

ويستخدم مكتب التحقيقات الفيدرالي مصطلح "المتطرف العنيف المحلي" للإشارة إلى الأفراد الذين يستوحون هجماتهم من المنظمات الإرهابية الأجنبية، مثل ذلك الهجوم الأخير في نيو أورلينز الذي يقول (أف بي آي) أنه مستوحى من "داعش" على رغم أنه لم يوجد أي مؤشر على ما إذا كان المهاجم كان على رادار أجهزة إنفاذ القانون قبل الهجوم، وهو ما يتوافق مع عدد قليل من الحالات السابقة التي لم يكن لدى الجاني أي تورط سابق أو موضوع تحقيق سابق من قبل أجهزة إنفاذ القانون.

أجرى مكتب التحقيقات الفيدرالي على مدى العقد الماضي أكثر من 1000 تحقيق نشط لعناصر ترتبط بتنظيم "داعش" في جميع الولايات الـ50 (أ ف ب)

نذير خطر

وفي حين استحوذ التهديد الإرهابي المحلي على حصة الأسد من تركيز صناع السياسات في الولايات المتحدة خلال الأعوام الأخيرة، ظلت قضايا دعم "داعش" والملاحقات القضائية بشأنها ثابتة عند 12 اعتقالاً كل عام باستثناء الفترة بين 2014-2016 في ذروة صعود تهديدات التنظيم، والتي شهدت أكثر من 60 اعتقالاً سنوياً. ومع تصاعد نذر الخطر استمر هذا الاتجاه في عام 2024، بما في ذلك رجل من تكساس عمل على دعم "داعش"، ومراهق من ميريلاند قيل إنه أراد السفر إلى الصومال للانضمام إلى "داعش"، ورجلان من أوكلاهوما تم القبض عليهما بتهمة التخطيط لمؤامرة يوم الانتخابات.

وبينما لا يشكل يوم رأس السنة الجديدة تاريخاً مهماً بصورة خاصة في الدوائر المتطرفة الأميركية، على رغم وقوع هجوم واحد سابق مستوحى من الإرهاب الأجنبي خلال احتفالات ليلة رأس السنة، فإن الهجمات في عيد الميلاد أو رأس السنة الجديدة، تميل إلى أن تكون أقل ارتباطاً بالتاريخ نفسه وأكثر ارتباطاً بضمان اهتمام وسائل الإعلام والجمهور الكبير بالتجمعات الكبيرة للضحايا المحتملين، وبالتالي توصيل الرسالة السياسية بالعنف إلى الجماهير. وإذا تكررت مشاهد العنف الدموي خلال أعوام حكم ترمب، فلا شك أنه سيتحمل مسؤولية تقليص حجم وامتيازات وتمويل مكتب التحقيقات الفيدرالي إذا قرر في النهاية تنفيذ وعوده الانتخابية السابقة.

الوضع المتقلب في سوريا

أما على صعيد السياسة الخارجية، فإن الوضع المتقلب بصورة متزايدة في شمال شرقي سوريا، حيث تحتجز قوات سوريا الديمقراطية (قسد) التي يقودها الأكراد، الآلاف من مقاتلي "داعش" وعائلاتهم الذين تم أسرهم في ساحات القتال، سيُجبِر الرئيس المنتخب على التريث وعدم التسرع باتخاذ أية خطوات من شأنها أن تسحب القوات الأميركية من سوريا أو العراق قبل استكمال مهمة القضاء على "داعش".

وبحسب جيك سوليفان، مستشار الأمن القومي لبايدن، فإن أكبر مخاوفه هو عودة "داعش" التي قد تستغل "الفراغات"، خصوصاً في الوقت الذي تتكشف في سوريا مناطق غير خاضعة للحكم بشكل أساس بعد سقوط نظام الأسد.

غير أن ترمب أوضح أنه لا يجب التدخل في سوريا وأن الولايات المتحدة ستبذل قصارى جهدها للبقاء خارج سوريا، حيث يتمركز 2000 من القوات الأميركية، بينما من المقرر أيضاً أن يبدأ الجيش الأميركي في الانسحاب من العراق، حيث لا يزال هناك 2500 جندي لمحاربة "داعش"، وكجزء من الاتفاق بين العراق والولايات المتحدة، ستنسحب القوات الأميركية المتبقية على مرحلتين على مدى العامين المقبلين، وتغادر بالكامل في عام 2026.

لكن خبراء الإرهاب يحذرون من أن أي تحرك للانسحاب جزئياً أو كلياً من كلا البلدين حيث كانت عناصر "داعش" تعيد تجميع نفسها ببطء وصبر من دون ضجة، من شأنه أن يؤثر سلباً في القتال ضد "داعش".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

هل يتحمل ترمب الخسارة؟

قبل حكم ترمب بعامين ونصف العام، استغلت "داعش" عدم الاستقرار الناجم عن الحرب الأهلية في سوريا للاستيلاء على الأراضي، وفي عام 2014، استولى التنظيم على الموصل، ثاني أكبر مدينة في العراق، وفي ربيع وصيف عام 2014، سيطرت المجموعة على مدن في أنحاء العراق وسوريا، واكتسبت سمعة سيئة بسبب عمليات الخطف والاستعباد الجنسي والإعدامات العلنية، كما دبرت وألهمت سلسلة من الهجمات الإرهابية في جميع أنحاء أوروبا.

لكن في أكتوبر (تشرين الأول) 2019، أعلن الرئيس ترمب مقتل أبو بكر البغدادي، قائلاً في خطاب ألقاه في مارس (آذار): "مؤسس وزعيم ‘داعش‘، المنظمة الإرهابية الأكثر وحشية وعنفاً في أي مكان في العالم، قضينا على خلافته بنسبة 100 في المئة" بعدها استولى الأكراد المتحالفون مع الولايات المتحدة على آخر بقايا أراضي "داعش".

لكن اليوم، وعلى رغم تأكيد الخبراء أن "داعش" أضعف الآن في العراق، إلا أنها تظهر علامات على انتعاشها في سوريا، حيث واصل التنظيم نشر أيديولوجيته المتطرفة من خلال الخلايا السرية، كما امتد نفوذه وتأثيره إلى أفغانستان وإيران ودول الساحل الأفريقي.

ومن المستبعد أن يقبل ترمب عودة "داعش" إلى التعافي بعدما ظل يتباهى على الدوام وفي حملاته الانتخابية بأنه الوحيد الذي أنهى التنظيم بنسبة 100 في المئة. 

أما إذا تجاهل ترمب "داعش" واعتمد على نهج مخفف من خلال استهداف الجماعات الإرهابية وقادتها عبر القصف الجوي أو ما يسمى استهداف "فوق الأفق"، فسوف يتعين على ترمب أن يواجه خطر التعرض لضربة في الوجه.