فياض ما راضي على الزعيم عبد الكريم
خاص – NEN عراق
الكاتب – د.نعمة العبادي
الحلقة الثلاثون
من اجل اهوارنا
“قال في جواب شلون الطايفة ؟ الطايفة بخير بس فياض ما راضي على الزعيم عبد الكريم”
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته يؤسفني أن اقول لكم أن هذه هي آخر الحلقات لسلسلة التعريف بهور الحمار واهله بل عموم مناطق الاهوار ،والتي كما أعتقد أنها خلقت قدرا جيدا من المعرفة لجميع المطلعين على حال هذه المنطقة المهمة وتأريخها وغطت كل الجوانب المهمة فيها ،وسيكون الحديث فيها عن النشاط السياسي عند أهل الهور وما هي المؤشرات والمعطيات عليه.
يعرف المختصون أن هناك عوامل تساعد على بروز النشاط السياسي من عدمه ،تكاد تكون قابلة للتعميم في كل المجتمعات تتمثل في : أولا: وجود وعي معرفي ونضوج ثقافي بدرجة معينة يسمح للافراد بأدراك القضايا السياسية ومتعلقاتها ،وثانيا :أن يكون في الواقع فكرة أو شخصية أو جهة تمثل حالة استقطاب للنشاط السياسي وتسعى لتحريكه لأنه من الصعب أن يتحرك الأفراد في الفعل السياسي أفرادا منفردين ،الثالث : وجود فسحة من القوانين النافذة تسمح بالنشاط السياسي او امكانية واقعية “زمانية /مكانية/ظرفية” تسمح للافراد والجماعات خرق حواجز الحظر والمنع للنشاط السياسي ،رابعا :ادراك واع للمشكلات السياسية ومدى تقصير او انحراف او ظلم النظام السياسي القائم ،فالتحدي له دور مهم في خلق الاستجابات ،وأخيرا: شعور بالأمل في التغيير أو تحسين الأوضاع والجدوى من الحركة لأن اليأس يقضى على كل التطلعات.
من الصعب القول بتوفر هذه العوامل في مجتمع الهور خصوصا في الأزمنة القديمة ،وخصوصا فترات الأنعزال شبه التام عن طرق المواصلات ووسائل التوصل وحالة الامية والتخلف شبه العامة ،لذلك لا يمكننا الحديث عن أي نشاط سياسي لأهل هور الحمار في الأربعينات والخمسينات ،وقد يكون هناك استبشار مبني على السماع مع التغيير الجمهوري ومجيء حاكم يوصف بقربه من الفقراء وشعوره بحالهم وبخطاباته الوطنية والحماسية التي قد يصل بعض اخبارها إليهم ،فالهور ليس فيه اقطاعيات زراعية مثل غيره من المناطق التي مثل لها قانون الاصلاح الزراعي عتق من عبودية الملاك وأعلى نجم الزعيم عبد الكريم قاسم لديهم بوصفه المنقذ.
وعلى الرغم من أن هور الحمار لا تبعد عنه كثيرا مناطق الفهود وسوق الشيوخ والشطرة والتي شهدت نشاطا مهما لعموم اليسار والشيوعيين على وجه الخصوص ،فقد كان “فهد” زعيم شيوعية العراق عامل ثلج في معمل لأخيه في الناصرية وكانت حلقاته الأولى هناك ،كما أن لقضائي الشطرة وسوق الشيوخ باعهما في النشاط الشيوعي إلا أن أهل الهور لم يكن لم نصيب إلا في أفراد قلائل جدا جدا.
في قريتنا لم يكن احدا قد انتمى للشيوعية ولكن في القرية المجاورة جرى الحديث عن احد الاشخاص الذي كان من المعلمين الاوائل وقد طاردته السلطة آنذاك بوصفه احد القيادات الشيوعية ،وسمعت انه هرب الى روسيا ثم ألمانيا الشرقية وضل هناك إلى أن عاد طاعنا في السن نهاية الثمانيات لكي يموت بين اولاده وتوفى رحمه الله بعد اشهر من عودته ،كما أن هناك حديث عن آخرين من الشيوعيين في مناطق أخرى من الهور ولكن عددهم لا يتجاوز الأصابع ،فعموم أهل الهور كان لهم موقف من الشيوعية ويعدونها بحسبهم “كفرا وإلحادا” خصوصا بعد فتوى السيد محسن الحكيم رحمه الله التي اضرت بالشيوعية كثيرا.
ومع قدوم البعثيين في بداية الستينات بدء البعث يتحرك على بعض الشباب او الوجهاء سواء من خلال الجمعيات الفلاحية أو النقابات أو من خلال المفاتحة المباشرة ،وهكذا صار في كل قرية عدد قليل من البعثيين الذي وصل بعضهم فيما بعد إلى درجة عضو شعبة أو عضو فرقة في التنظيمات الحزبية ،ومع ذلك لم يكن مرحب بهم على الرغم من أن معظمهم ليس له أي أذى على اهل المنطقة.
أيضا لم يسجل الهور نشاطا في الاحزاب الدينية المعارضة للنظام مثل حزب الدعوة وضل الامر في حدود بسيطة لا يتعدى الافراد ،وهناك حديث عن استثمار لبيئة الهور وبعدها عن عيون السلطة من قبل التنظيمات المعارضة ،وربما كانت للدولة متابعات مكثفة بحثا عن مطلوبين في نهاية السبعينات ايام حملات الانقضاض على جميع احزاب المعارضة وخصوصا حزب الدعوة.
كان الزمان الاكثر تدافعا لاهل الهور مع النظام في فترة الحرب العراقية الايرانية ،فالناس بطبيعتهم كارهون لقضية التجنيد الالزامي او الاجباري وكان بمثابة يوم حزن اليوم الذي تذهب فيه وجبة من “المواليد المدعوة للخدمة” ،وفي كل دفعة كان هناك من المتخلفين او الهاربين ،ومع اندلاع الحرب صار الذهاب الى الجيش يعني الذهاب الى الموت ،وبمرافقة كل هذا الخطابان الحكومي الذي تميز بالطائفية والذي تحامل على الشيعة على الرغم من انهم كانوا عماد الجيش العراقي الذي قاتل في المعركة ،والخطاب الثاني الذي كان يبث عبر القنوات الايرانية الناطقة بالعربية او بعض المحطات الاذاعية للمعارضة العراقية والتي قامت بطرح افكار وحقائق عن النظام وتوجهاته وما يجري وتحشيد رأي عام مضاد.
هذه الحالة حولت الهور تدريجيا الى “حافات المياه” ،فصار ملاذا للهروب من الجيش والجيش الشعبي والمهمات الخاصة وحملات التبرع القسري ،وربما جاء البعض من أماكن أخرى لغرض الاحتماء بالهور وقد يكون لبعض الحركات المعارضة نشاطا سياسيا ،لكن هذا الامر كله كان بمعزل تماما عن المناطق السكانية لأهل الهور والقرى التي ضلت بعيدة عن هذا الاحتكاك لانها تحت نظر السلطة ومتابعاتها ،خصوصا وقد اتاحت طرق المواصلات والسيارات وسهولة الوصول منها وإليها للجهات الامنية امكانية الاختراق والمراقبة المستمرة وكذلك دعم ذلك تكثر عدد المنتمين للحزب.
صار الهور بشكل مستمر عرضة للمداهمة والمتابعة سواء من السلطات المحلية على مستوى الناحية والقضاء والمحافظة او على مستوى بغداد ،حيث استعمل النظام الطائرات الهليكوبتر في قصف مناطق الاهوار في منتصف الثمانيات وكان الطائرات تطير من قواعد جوية عراقية يظنها الناس انها تطير لغرض مواجهة ايران إلا انها كانت تقصف في الهور وتقتل دون تفريق وقد اندفت قرى بأكملها تحت نيران تلك الصولات ،كما أن حملات المداهمة العامة والتجسس لم تتوقف.
في أحدى محاولات النظام للسيطرة على بيئة الهور أخترعت السلطة فكرة “فرسان الهور” على غرار فرسان الاكراد ،واستقطبت احد الهاربين وكان نائب ضابط وجمع فوج من الهاربين في الهور على أساس انهم يعدون مقاتليين رسميين وتحسب لهم خدمتهم وتسوى قضية هروبهم بالمقابل يكونوا عين للسلطة في الهور في مواجهة المتمردين والتنظيمات المعادية وأي حالات هروب ،وقد كانت تجربة مليئة بالمشاكل وفي ظروف غامضة صفت السلطة هذا الشخص الذي ترأس الفوج وتشرذم الباقون ورما انقضت عليهم السلطة.
أن الملمح الاساس الذي يمكن توصيفه للحالة السياسية لأهل الهور هي حالة الامتعاض العامة من سياسات النظام السابق وحروبه وقضية زج الناس في أتون الحروب والموت دون فائدة وكذلك بقاء حالة الفقر والحرمان ،وربما تلمس بعض الجنود نظرة دونية من الاخرين او الضباط اثناء خدمتهم مما خلق حالة من النفور والكراهية.
عمد النظام الى تغيير مجرى نهر الفرات في مشروع “نهر القائد” جنوب مدينة الناصرية وحرف الماء الى الصحراء بحجة استصلاح تلك الاراضي ،الامر الذي مثل تجفيفا للاهوار وقطع الماء على الناس تدريجيا وماتت الحيوانات والاسماك ولكن اهل الهور ضلوا مكابرين ومتحملين لهذا العناء على الرغم من رحيل الكثير منهم من المنطقة.
وبعد حرب الكويت عام 1990 وانسحاب الجيش العراقي وتكدسه في مدينة الناصرية وجمعه من قبل النظام قسرا في مدارس ومباني مما جعله لقمة سائغة للقصف الامريكي من جديد ،ومع تفجر الانتفاضة الشعبانية كانت ناحية الفهود أول مدينة عراقية انطلقت منها صيحات المعارضة كما أنها آخر منطقة أعادها النظام بعد ما سمي بالتحرير ،وقد زحف بعض شباب الهور للمشاركة في التجمعات في الناحية وقاتل بعضهم واستشهد وهرب الكثير منهم وضل في بلاد المنفى لحين عام 2003.
بقي بعض من هؤلاء في الهور حتى مع استعادة النظام سطوته من جديد وعاد آخرون بعد ذلك للهور وصارت منطقة للتنظيمات المعارضة للنظام وكانت بينها وبين المؤسسات الحزبية والجيش صولات ومعارك امتد بعضها لايام كما الحال في معركة الزورة في مناطق العبرة ،واستمر الحال لاكثر من سنة حيث جففت السلطة الهور تماما وانقضت على الجميع باساليب مختلفة وهاجر جميع الناس وصارت الديار بلاقع وعم الموت والخراب وضلت الامور على هذا الحال لحين عام 2003.
عادت الحياة تدريجيا للهور وبدء البعض يعودون سواء من اجل الزراعة او الصيد ولكن مع اوضاع خدمية معدومة وظروف سيئة وعدم رعاية ولكن هناك بعض تباشير الخير التي شجعت البعض على الاستمرا والصبر لحين تحسن الظروف.
أستبشر العراقيون عموما وأهل الهور خصوصا بالأنجاز الكبير في أدراج مناطق الأهوار ضمن التراث العالمي وما يترتب على ذلك من الحقوق والامتيازات خصوصا فيما يتصل بأعادة المياه وحماية الثروات الطبيعية ،وينتظر الجميع الخطوات العملية التي تجسد الامور على ارض الواقع.
لكل أمر حادث خاتمة ،وخاتمة حديثنا معكم عن الهور هذه السطور التي أتمنى أنني وفيت بها لمسقط رأسي وموطن طفولتي أولا وللعراق في بيان معالم أحد أهم المناطق فيه ،وأود الأشارة أنني على استعداد لأجابة أي تساؤولات أو ملاحظات تتعلق بالحلقات أو موضوع الهور سواء عبر البريد الخاص او من خلال التعليقات على الحائط العام وشكري وامتناني لكل من قرأ وساند وعاضد وأهتم وتشر هذه الحلقات.
ألقاكم على خير في موضوعات أخرى.
#من_اجل_اهوارنا