هشام عمار: لعينين من عسل ومرمر.. معين بسيسو فراشة تطير حتى آخر المدى
2017-01-26 00:00:00 - المصدر: راي اليوم
هشام عمار
الولوج لعوالم الكتابة يحتاج إلى مئات المقالات وعشرات الكتب وعين متفرسة ومسؤلية إضافية وذوق رفيع وراداراً أدبياً له قدرة خارقة على الإستشعار لرصد هذه الظاهرة المسماة معين بسيسو, حنجرة الأرض وشاعر المقاومة, كما أن الدخول فى تفاصيل هذه الشخصية يجعلك تحار وتصاب بالدهشة ويتطلب منك الإمساك بمفاتيح عدة للمرور من خلال أبوابها المتعددة , فهل هو الشاعر الثائر أم الثائر الشاعر أم الروائى المسرحى أم السياسى الحزبى أم هوصعلوك القبيلة الذى انحاز للفقراء فخرج شاهراً منجله ومتأبطاً ِشعره.
جمع معين بين العمل الثورى والفكر التقدمى و أدرك مبكراً أهمية الدور الذى يلعبه الشعر وبأنه ليس أدباً للصفوة بل هو ثقافة جماهيرية يمتلك عنصرأ كونياً يجعله يسمو على الإقليمية والقومية والمحلية والعرقية والطبقية, فاستقل قطار الإبداع وانطلق به بعيداً عن كل الخطوط المعدة له سلفاً , شراعه القلم وسفينته الورقة وصوته الريح , فكانت حروفه سوطاً من نار تلسع الجلادين وصرخة مدوية من أجل تحرير الإنسان من الإستلاب ولمسة حنان لملايين المعذبين وبعث لروح المقاومة وإيقاظ للنائمين من سباتهم الطويل وتعبيراً عن واقع الجماهير , وكانت كلماته مصارحة لها بقضية الحرب والكفاح على الصعيد العملى الحقيقى لا على صعيد الشعارات ومهرجانات الأقنعة والرياء والتخدير فتبعته الجماهيرورددت أشعاره وعممتها.
لم تقف محنة السجن الطويلة والمريرة والفترة التى قضاها حبيس الزنازين ثمناً لمبادئه وقناعاته ومواقفه الوطنية المشرفة حاجزاً فى طريق كتاباته وإجهاض موهبته, ولم تجعله ينزوِ فى الظلام والظلال بل كانت حافزاً للمزيد على إبداعه الشعرى ومخاضاً للخروج من اليأس إلى الأمل وإلى المستقبل الذى يحمل التجدد والإنبعاث والحياة فكتب قصائده بالدم وبالحبرالأحمر على جدران الزنازين وخيام اللاجئين وأربطة الشاش البيضاء, فوق الرمل و الثلج وفوق ماء البحر وبالجمر فوق أفق الحريق وعلى أكياس الرمل والمتاريس, مستخدماً الأبجدية معولاً للبحث عن الحقيقة ولهدم قلاع الظلم, فكانت سلاحاً فتاكاً فى وجه المستغلين ونصيراً للكادحين والمظلومين والضحايا والفقراء فى قدرة فنية فائقة فى إبداع الأسلوب والمضمون ولم يمنعه إلتزامه العقائدى عن الإمساك بالخيط الرفيع الذى يفصل بين رؤية الأديب الملتزم إنسانياً وبين رؤية المناضل والثائر فلم تكن كلماته بياناً ثورياً بل كانت أدباً ثورياً تعبوياً تناقلته الأفواه ورددته الحناجر واختزنته الذاكرة الجمعية.
سبعة وخمسون شتاءً تعاقبت على معين بسيسو إبن حى الشجاعية فى مدينة غزة ,والثائر الأممى فى الجسد الفلسطينى قضاها فى رحلة بحث مريرة عن معنى أوسع للحرية فى مشوار حياته الذى قضاه فى حالة نضال واعتقال, مطارداً فى المنافى ومتنقلا بين المطارات والعواصم فى حالة سفرٍ دائم , من شوارع غزة وهويشعل المظاهرات ويقودها بصدرٍ عارٍ فى مواجهة الرصاص الحى ضد مشروع توطين أبناء الشعب الفلسطينى إلى تجربة الإعتقال فى السجن الحربى الرهيب فى القاهرة ” كنت قد اعتقلت في غزة إثر تظاهرات اشتعل بها القطاع ضد مشاريع إسكان وتوطين اللاجئين الفلسطينيين في سيناء, كانت المرة الأولى التي أدخل فيها إلى الزنزانة وأجلد فيها بالكرباج, حبال الكرباج المجدولة من أسلاك التليفون أحسست أنها قد رسمت على ظهري إلى الأبد خارطة الوطن”
تنقل معين من منصات الخطابة والشعر إلى متاريس وخنادق المقاومة متمنطقاً مسدسه وشاهراً شعره بخصوصية الثائر وعنف المقاوم ورقة الشاعر من معركة وحصار مخيم تل الزعتر” أرسمى من دمى ومن أصفادى/ يا أيادى خريطة لبلادى” إلى مواجهته الفاعلة للحصار الصهيونى لبيروت ” لن تدخلوا بيروت/ كل كيس رمل/ كل صخرة/ كل موجة فى بحرها تابوت” إلى أرصفة المطر والتشرد والغربة مروراً ببغداد ودمشق وموسكووالقاهرة وطرابلس, كان مُعين مَعيناً لا ينضب من المقاومة وجمرة متقدة من الإبداع الشعرى والأدبى وطائر رُخ أسطورى مسافرٌ باستمرار عبر العصور والأزمنة فى سماء الحرية وفوق أعناق الجلادين وأقبية الزنازين السوداء, يأخذه المنفى لمنفى آخر, المتراس بوصلته وفلسطين وجهته.
بلغت أعماله الأدبية أكثر من أربعين عملاً ما بين شعر ونثر ومسرح وإذاعة ومئات المقالات التى لا تزال حاضرة فى جسد الأدب الفلسطينى والعالمى وترجمت إلى العديد من اللغات العالمية كالروسية والألمانية والإنجليزية والفرنسية واليابانية والفارسية وتعد ملحمته الشعرية ” القصيدة ” والتى اشتهرت بين القراء ب “سفرٌ سفر” التى أتم كتابتها قبل رحيله بشهرين من أعظم ما كتب وإن لم تأخذ حقها فى الإنتشار والنقد, فقد كانت بمثابة إلياذة فلسطينية ونبوءة شعرية ووصية مقدسة وشهقة احتضار, نزفها الشاعر حروفاً ونحتها كلمات كانت قد اختمرت فى ذاته ونضجت خلال زمن طويل, كما ينضج الماس فى باطن الأرض ببطء واستمرار, فى ملحمة شعرية قاربت الألف بيت مليئة بالصور والرموز والتجسيد والتجريد وتوظيف للتراث والعناصر التاريخية, يتشابك فيها الماضى مع الحاضر والموروث مع الإبداع فى جمل قصيرة متوترة على طريقة مسرحية الشخص الواحد و أسلوب القصيدة الدائرية المغلقة التى تنتهى إلى حيث تبتدأ , فيها يبدأ الشاعر بالسفر وينتهى أيضاً بالسفر, قدره وقدر كل فلسطينى, سفر إرغامى من الميلاد إلى الموت وسفر دائم للحرية وللوطن ” سفر الهداهد فى القصائد/ سفر الثعالب فى عناقيد الدمِ” سفر الموت والغربة والمرض وسفر الشمس والحقول والأرض التى لم يزرها بعد.
عاصر معين فى عاميه الأخيرين بحزن مرير حربين وحصارين وشاهد تخلى الأصدقاء و تناحر الرفاق وانحراف فوهة البندقية عن هدفها وانكسار الحلم, ولأن أحزان الشاعر لا يمحوها الزمن بل يختزنها القلب حين يصبح قلب الشاعر هو قلب العصر ووجدان الأمة فقد شاخ معين بسرعة وكبر فى عامين ألف عام وجرفه نهر الحزن الذى لا عودة منه وهو يستشرف زمن الإنهيار العربى القادم, كالعراف الذى يرى المأساة سلفاً لكنه لا يملك لها دفعاً فألقى على الملأ قصيدته الأخيرة فى الأسبوع الثقافى الفلسطينى فى لندن وتناول عشاءه الأخير (هذا العشاءُ هو الأَخيرُ على موائدِكُمْ/ وإنِّي الآنْ الآنَ أعرِف آكِلي لحْمَ الخُيولِ الميِّتهْ/ لَحْمَ المَراياَ الميِّتَهْ /لَحْمَ الرِّياحِ الميِّتَهْ) وخلد فى صمت إلى الموت فى غرفته الفندقية واضعاً على باب الغرفة شارة (عدم الإزعاج) ولم تكتشف وفاته إلا بعد مرور ثمانٍ وأربعين ساعة.
سافرمعين إبن الريح والتراب والصيف العربى الحار عن سابق تصميم وتصور سفره الأبدى فى ضباب لندن وليلها البارد على هديل الحمام الحزين “سلاماً أيها المتراس/ الآن كيفَ ترى لأرضكَ/ كلّما زدّتَ اقترَاباَ/ كلّما زدّتَ إغتراباَ/ الآن كيفَ تَرَى لِنَجْمِكَ/ كُلَّما زادَ ابْتِعَاداَ/ كلّما زدْتَ امتدادا”
معين أيها الحزين حتى الضحك, الشرس حتى العذوبة,يا من فرقته الجغرافيا فاحتضنته القصيدة فسكنت بيتاً من الشعر لا من الحجر وأكلت الكلمات بدلاً من الخبز, يا وجه طفل وعينان من عسل ومرمر وجذع سنديانة, سعيد من له مرقد قلب فى عالمك وسلام على روحك فى ذكرى سفرك الثالث والثلاثون.
استشهد الماء ولم يزل يقاتل الندى
استشهد الصوت ولم يزل يقاتل الصدى
وأنت بين الماء والندى
وأنت بين الصوت والصدى
فراشة تطير حتى آخر المدى