لماذا يتأخر البعض دائما عن المواعيد؟
لماذا يأتي البعض إلى مواعيدهم متأخرين على الدوام؟ ربما لا ينجم ذلك دائما عن سلوك طائش أو وقح، بل قد ينتج عن عوامل أخرى، حسبما تقول لورا كلارك، الصحفية في “بي بي سي”.
أعترف أنني أتأخر عن مواعيدي، أو على الأقل أتعافى حاليا من هذا الداء. بل إنني في الحقيقة فَوَّتُ أكثر من موعد نهائي حُدد لي لتسليم هذا المقال، بشكل متكرر، وعلى نحو محرج بطبيعة الحال.
ومع أنه قد يحلو لي التظاهر بأنني أتعمد تبني هذا الأسلوب في التعامل مع الكتابة الصحفية، على غرار “المدرسة الأسلوبية” في التمثيل، لكن الأمر ليس كذلك في الواقع.
أعلم أنني لست الوحيدة من نوعي. فكل منّا يلتقى بمثل هذه النوعية من الشخصيات، في صورة جليسة أطفال تأتي دوما متأخرة، أو زميل عمل يفوّت كل مواعيد التسليم النهائية التي تُحدد له، حتى وإن كانت بضع ساعات، أو صديقة لابد أن تُبلغها بأن تَقْدِم مبكرة عن موعد وجبة الغذاء المحجوزة لكما في أحد المطاعم 30 دقيقة كاملة، حتى تضمن أن تأتيك في الموعد.
ومع أن التأخر على شخص ما ينتظرك يُعد من بين أكثر العادات الكفيلة بإثارة الغيظ والغضب، فربما يتعين عليك – وأنت تنتظر صديقا أو زميلا تأخر عليك – أن تبعد عنك تلك الأفكار التي قد تجول في ذهنك حول أسباب تأخره.
فمن المحتمل ألا يكون السبب أن ذاك الشخص المتأخر مجرد إنسان أناني. فمن شأن نظرة متعمقة في الأسباب النفسية المتعلقة باعتياد البعض التأخير، إلقاء الضوء على طبيعة عقلٍ ربما يعاني من خلل ما في هذا الصدد. ولكن الخبر السار هنا هو أن هناك أكثر من حل متاح لتلك المشكلة.
المتأخرون ليسوا كسالى
ينظر الناس طوال الوقت تقريبا بشكل سلبي إلى من لا يلتزمون بمواعيدهم. وتقول هارييت ميلوت، خبيرة العلاج المعرفي السلوكي والطبيبة النفسية تحت التدريب في لندن: “من السهل أن نعتبر هؤلاء أناسا مشوشين، وفوضويين، ووقحين، ولا يراعون الآخرين”.
اللافت أن ميلوت تقر بأنه بعيدا عن تعاملها في عيادتها مع أشخاص مثل هؤلاء، فإن احتكاكها في حياتها العادية مع أُناس يتأخرون عن مواعيدهم يشكل أمرا “يمكن أن يؤدي، وبشكل خاص، إلى إثارة غضبي.”
لكن كثيرا من هؤلاء “المتأخرين عن مواعيدهم” منظمون بشكل ما على الأقل، ويرغبون في إسعاد أصدقائهم وأقاربهم ورؤسائهم في العمل.
كما أن هؤلاء غالبا ما يكونون على علمٍ كافٍ بالضرر الذي قد يسببه لهم تأخرهم عن مواعيدهم فيما يتصل بعلاقاتهم مع الآخرين، وسمعتهم، ومسيرتهم المهنية، ومواردهم المالية. بل يشعرون على الأغلب بالخزي إزاء ذلك الأمر أيضا.
وتقول ديانا ديلونزور، في كتابها “لن أتأخر ثانية على الإطلاق”، إنه رغم وجود من يستمتعون بإبقاء الآخرين منتظرين “فإنك لن تحب أن تكون متأخرا” عن مواعيدك إذا ما كنت إنسانا سويا وطبيعيا. ومع ذلك “سيظل التأخير عدوا لك”، على حد قول الكاتبة.
حججٌ وأعذار
بينما تحظى بعض الأعذار التي تُقدم لتفسير التأخير عن الموعد – خاصة إذا ما كان لوقت طويل – بتقبل الجميع؛ كأن يكون هذا الأمر ناجما عن حادث، أو بسبب الإصابة بوعكة صحية على سبيل المثال، ليس من اليسير أن تلقى أعذارٌ أخرى تفهما مماثلا.
ويتظاهر بعض المتأخرين بأن ما فعلوه ناتجٌ عن انشغالهم بأمورٍ أهم وأسمى من الالتزام بالمواعيد، مثل الهوس بالنزوات، والميول الغريبة، أو لأنهم لا يؤدون العمل سوى تحت ضغوط، أو لأن ساعتهم البيولوجية تشبه ساعة البومة، التي تصحو ليلا وتنام نهارا، وليس ساعة “كروان” يستيقظ مبكرا مع صياح الديك.
وجوانا هي أحد المتأخرين عن مواعيدهم بشكل مزمن، وهي مدرسة تعمل في لندن وتفضل عدم ذكر اسمها الكامل. وتقول إن ما عُرفت به من تأخر عن المواعيد يرتبط أحيانا باختلاف في الآراء ليس إلا.
فبحسب قولها: “قد يطلب مني صديقٌ أن آتي في أي وقت اعتبارا من الساعة السابعة، لكنه يتضايق إذا ما أتيت في الثامنة أو بعد ذلك”.
ومن جهة أخرى، قد يتضح أن كونك دائم التأخير غير ناجمٍ عن خطأ ما من جانبك، بقدر ما هو ناتجٌ عن طبيعة شخصيتك. وبحسب خبراء، غالبا ما تشيع – بين من يعتادون هذا الأمر – صفاتٌ مثل التفاؤل، وتدني القدرة على التحكم في النفس، والقلق أو الولع بالسعي للإثارة. كما أن الإحساس بمرور الوقت قد يختلف باختلاف نمط شخصية كل منّا عن الآخر.
وفي عام 2001، أجرى جيف كونتي، الأستاذ في علم النفس بجامعة سان دييغو الأمريكية، دراسةً قسّم الأشخاص الخاضعين لها إلى مجموعتين؛ تضم أولاهما أشخاصا طموحين وينزعون للتنافس والتباري مع غيرهم، بينما تشتمل الثانية على أشخاص مبدعين، ومولعين بالتأمل والاستكشاف.
وطلب كونتي من المجموعتين أن يُقَدِروا بأذهانهم ودون استخدام ساعة، كم من الوقت تستغرقه الدقيقة الواحدة لتنقضي. وبينما كان تقدير أفراد المجموعة الأولى قريبا من الصحة إلى حدٍ كبير، إذ قالوا إن الدقيقة مرت بعدما انقضت 58 ثانيةً تقريبا منها، شعر أقرانهم في المجموعة الثانية بمرورها بعد 77 ثانية؛ أي عقب انقضائها بـ 17 ثانية كاملة.
أنت ألد أعداء نفسك
في عام 2015، كتب تيم أوربان، وهو متحدثٌ في ما يُعرف بسلسلة مؤتمرات “تيد”، والذي يصف نفسه كذلك بأنه شخصٌ يتأخر على الدوام، أن لدى أقرانه من المتأخرين “دافعا قهريا غريبا من نوعه لإلحاق الفشل بأنفسهم”. بل وأطلق على أصحاب هذه الأرواح التعسة وصف “المهووسين بالتأخر على نحو مزمن”.
ومن هذا المنظور، هناك الكثير من أسباب التأخر عن المواعيد تنبع من داخل الشخص المتأخر نفسه، رغم أن ثمة أسبابا ذات طبيعة أخرى. وبالنسبة لحديثي العهد بهذه المشكلة، ربما تكون ناجمة عن توقعهم أو تخوفهم من تأخرهم على موعدهم، أو اهتمامهم المبالغ فيه بالتفاصيل.
وبالنسبة للمعلمة جوانا، يشكل إعداد التقارير الخاصة بأداء طلابها في المدرسة النموذج الأكثر إيلاما لها فيما يتعلق بالتخلف عن المواعيد.
وتقول في هذا الصدد: “لم التزم قط بالموعد المحدد، وهو ما يجعل الأمر يبدو وكأنني غير مكترثة” بالمسألة برمتها. وتستطرد جوانا بالقول إنها تنشغل بالتفكير بشأن هذه التقارير لأسابيع، وتكرس اهتماما كبيرا حقا بتقييم كل طفل، “لكن تقديمها متأخرا يقوض كل ذلك”.
ونعود لـ” هارييت ميلوت” التي تقول إن التأخر عن المواعيد قد يرجع بالنسبة للبعض لمعاناتهم من مشكلات عصبية أو ذهنية شائعة “ومثيرة للقلق العميق”.
وتضرب على ذلك مثالا بأن من تُشخص إصابتهم بالقلق “يتجنبون غالبا مواقف بعينها”. وتستطرد قائلة إنه من المحتمل أن ينظر من يعانون من قلة الثقة والاعتداد بالنفس، بشك في قدراتهم، وهو ما قد يفضي بهم إلى استغراق وقت أطول للتحقق من أنهم أنجزوا أعمالهم على الوجه الأكمل.
أما من يصابون بالاكتئاب، فغالبا ما يعانون من تراجع للنشاط والطاقة، وهو ما يجعل من العسير عليهم بشدة حشد دوافع في نفوسهم للقيام بأي خطوة إلى الأمام.
هل يكفي العلاج الذهني فقط؟
هنا يمكن الاستعانة برأي ليندا سبادين، وهي طبيبة نفسية تعمل في عيادة خاصة بمدينة نيويورك الأمريكية، ومؤلفة كتاب “كيف تقهر التسويف والمماطلة في العصر الرقمي”. وترى سبادين أن بعض حالات التأخر المزمن تنبع مما وصفته بـ”مشكلة التفكير الاستحواذي”.
وأضافت الطبيبة باختصار أن من يؤجل أو يسوف في إنجاز شيء ما، يركز على مبعثٍ للخوف يرتبط بالمناسبة أو موعد التسليم النهائي المحدد له، ويتأخر بسببه عن الحضور أو الانتهاء من تسليم العمل.
وبدلا من اكتشاف طريقة من شأنها تجاوز هذه المخاوف، تصبح ذريعةً للتأخير بالنسبة للمرء، حسبما تقول سبادين؛ التي تضيف أن الإنسان عادةً ما يعبر عن ذلك بعباراتٍ تدخل فيها مفردة “لكن”، كأن يقول لنفسه: “أردت أن أصل في الموعد، لكنني عجزت عن اتخاذ قرارٍ بشأن ما الذي يتعين عليّ ارتداؤه”، أو يقول: “بدأت كتابة المقال، لكن شعرت بالخوف من ألا يجده زملائي على المستوى المطلوب”.
وتقول سبادين إن ما يأتي بعد “لكن” هو ما يحظى بالأهمية في أعين من يتأخرون عن مواعيدهم. وتنصح من يطلبون مشورتها باستخدام حرف العطف “و”، الذي يشير إلى وجود تواصل وتصميم، بدلا من كلمة “لكن” التي تفيد بوجود تناقض ومنع وعرقلة، وهو ما سيجعل “المهمة أقل تثبيطا للهمم، ويؤدي إلى ألا يصبح الخوف عقبة”.
بالعودة إلى ديلونزور، سنجد أنها بدأت طريقها صوب الالتزام بالمواعيد بالتعرف على العامل الذي بدا أنه يجعلها دائما متأخرة، ومن ثم التعامل معه على نحو يلغي أثره.
ولم يحدث ذلك – كما تقول – سوى بعدما فشلت مرة تلو الأخرى في تحسين سجلها فيما يتعلق بالالتزام بالوقت. فقد أدركت وقتذاك أن شغفها بالإحساس بأن الوقت يلاحقها لإنجاز شيء ما هو ما يجعلها تتأخر. لذا، تمثل السبيل الوحيد لمعالجة هذا الأمر في تغيير طبيعة ما تتوق إليه.
وتقول ديلونزور في هذا الصدد: ” خلال عملي على تحقيق الهدف المتمثل في أن أصبح أكثر انضباطا، بدأتُ أدرك أهمية أن يكون المرء شخصا موثوقا به، وسرعان ما أصبح تطوير هذا الجانب من (شخصيتي) أولوية لدى”.
ولا ينبغي أن نغفل هنا إمكانية أن يكتشف الشخص المتأخر دوما عن مواعيده أن أصدقاءه وأحباءه باتوا ببساطة غير قادرين على التسامح أكثر من ذلك مع تصرفاته. وقد جاء مرضى إلى الطبيبة “سبادين”، تكبد أحباؤهم، ممن أصيبوا بخيبة أمل جراء تأخرهم الدائم، تكاليف خضوعهم لجلسة أو برنامج علاجي ما لديها.
ولكن ثمة أمل بالنسبة لأولئك الذين يُغضبهم الانتظار، فبوسعهم تحديد القدر الذي يمكنهم احتماله في هذا الصدد.
ووفقا لـ”سبادين”، بمقدور هؤلاء “اتخاذ موقف ووضع حدود” بدلا من الاكتفاء بالشعور بالغضب والانزعاج. وتضيف أنه يمكنك أن “تتحدث عما ستفعله إذا ما تأخر الشخص الآخر عن موعده”.
فمثلا، يمكنك إخبار صديقك معتاد التأخير أنك ستدلف إلى دار السينما لمشاهدة الفيلم وحدك دون انتظاره إذا تأخر عليك أكثر من عشر دقائق. كما أن بوسعك إبلاغ زميلك – الذي لم يُنجز من قبل أبدا الجزء الخاص به من مشروعٍ ما في موعده – أن اسمه لن يُدرج في قائمة المشاركين في المشروع التالي، وأن مديركما سيعلم بأدائه المتراخي في هذا الصدد.
إذا تحدثت عن نفسي، سأقول إن نقطة التحول بالنسبة لي جاءت عندما أعلنت صديقة حميمة أن الكيل قد فاض بها، وأنه ليس بمقدورها أن تحتمل أكثر من ذلك. فبعد أن وصلت متأخرة بواقع ساعة كاملة على موعد لقائنا للركض معا في متنزه قريب؛ قالت لي الصديقة إن الأمر قد بلغ منتهاه وإنها لن تتفق معي على أي خطط أو ترتيبات أخرى في المستقبل.
وهكذا أدى أسلوبها هذا إلى تفعيل أفضل عامل يمكن أن يساعدني على حل هذه المشكلة، ألا وهو وضعي موضع المساءلة، وتحديد المشكلات الحقيقية التي تُسبب تأخري بشكل مستمر، ومعالجة هذه المشكلات أيضا.
ولكن كما يقول المثل الدارج “العادات المتأصلة لا تزول بسهولة”؛ لذا تشكل معاناتي مع هذا المقال مثالا توضيحيا دقيقا على صحة هذا الأمر. مع ذلك، ففي المرة المقبلة التي أجد فيها نفسي وقد أبقيتُ شخصا ما منتظرا، سأتأمل بعمق طريقة تفكيري في الأمور، وتعاملي معها، وسأحاول تغييرها ولو قليلا.