اخبار العراق الان

جورج كرزم: تمويل اللاتنمية

جورج كرزم: تمويل اللاتنمية
جورج كرزم: تمويل اللاتنمية

2017-03-16 00:00:00 - المصدر: راي اليوم


 

جورج كرزم

منذ تسعينيات القرن الماضي ولغاية يومنا هذا غاب التمويل الحقيقي للتنمية، إذ أن معظم أموال “المانحين” للسلطة الفلسطينية أنفقت وتنفق على تغطية النفقات الجارية، وبخاصة رواتب العاملين في الجهاز البيروقراطي الحكومي المتضخم، ناهيك عن تغطية العجز الجاري في الموازنة الحكومية.  وهذا يعني بأن أموال “المانحين” رسخت عمليا البنية الاستهلاكية والخدماتية للاقتصاد الفلسطيني؛ وفي المحصلة، تعمقت حالة اللاتنمية.  إن أي أثر تنموي للمساعدات والاستثمارات الخارجية لا بد أن يقاس بمدى تنمية القطاعات الإنتاجية (وبخاصة الزراعة والصناعة)،  وبالتالي مدى مساهمة عملية تنمية القطاعات الإنتاجية في تعزيز حالة السيادة الوطنية على الغذاء.

إن أسبابا سياسية واستراتيجية بشكل أساسي تكمن خلف امتناع “المانحين” إجمالا عن الاستثمار الجدي في الاقتصاد الإنتاجي بعامة، والزراعي بخاصة؛ إذ أن الزراعة ترتبط عضويا بالأرض والمياه اللذين يسيطر عليهما الاحتلال سيطرة كاملة، وهما جوهر الصراع بين الشعب الفلسطيني والاحتلال.  كما أن التدفق المالي إلى الضفة والقطاع يمر من خلال المؤسسة الإسرائيلية ولا بد أن يحظى بموافقتها؛ لذا من الطبيعي ألا تسمح تلك المؤسسة بأن تستثمر الأموال الخارجية في مشروع تنموي زراعي-بيئي حقيقي ومتكامل؛ بما يتضمنه ذلك توسعا شاملا في القطاع الزراعي، وتأهيل المزيد من المساحات الزراعية، وزيادة الإنتاج والتسويق الداخلي من الناحيتين الكمية والنوعية، وذلك قبل التفكير بالتسويق الخارجي.  معنى ذلك تركيز الفعل التنموي الزراعي على إنتاج السلع الغذائية الأساسية للشرائح الشعبية المحلية، وبالتالي إنجاز الاستدامة وتعزيز السيادة الانتاجية الفلسطينية على الأرض؛ وبالطبع تنناقض هذه السياسة جوهريا مع المشروع الصهيوني الذي يهدف إلى تثبيت وتخليد “السيادة” الصهيونية على الأرض والموارد الطبيعية.

خلال الفترة 1993-2013، بلغ الدعم “التنموي” الأجنبي الرسمي والمساعدات الأجنبية الرسمية للسلطة الفلسطينية أكثر من 27 مليار دولار أميركي (وتحديدا: 27,352,110,000  دولار) (Israeli-Palestinian Conflict. “How Much International Aid Do the Palestinian Territories Receive?”, 2015).  وإجمالا، أُنْفِقَت غالبية المساعدات على الطوارئ ودعم موازنات السلطة الفلسطينية.  فعلى سبيل المثال، خلال الفترة 2005-2009 استخدم 60.6% من المنح والمساعدات الخارجية لدعم موازنة السلطة، و12.8% للطوارئ، بينما لم تتجاوز حصة الزراعة 0.9%  (“The Ecomic and Social Effects of Foreign Aid in Palestine”, Palestine Monetary Authority).  كما أن حصة القطاع الزراعي من موازنات السلطة الفلسطينية خلال السنوات العشرين الماضية، لم تتجاوز إجمالا 1%.  ففي عام 2014 بلغت حصة وزارة الزراعة من إجمالي المصروفات في الموازنة الفلسطينية نحو 0.7% (27 مليون دولار من أصل 3.860  مليار دولار).  أما حصتا وزارتي التربية والتعليم والصحة فبلغتا 18.7% و13.3% على التوالي (722 مليون و512 مليون دولار على التوالي)؛ وفي المقابل بلغت مصروفات قطاع الأمن 28% من إجمالي المصروفات في الموازنة العامة خلال عام 2014 (حسب بيانات وزارة المالية).  وفي موازنة عام 2016 التي بلغت 4.25 مليار دولار، حظي قطاع الأمن لوحده بـ28% من الموازنة، أما القطاع الزراعي فخصصت له نسبة 1%؛ بل إن القطاع الزراعي حظي بمكانة هامشية في الخطة التطويرية للحكومة الفلسطينية.

إن استحواذ الأجهزة الأمنية الفلسطينية على حصة الأسد من موازنة السلطة الفلسطينية، مقابل إهمال الأخيرة للقطاعات الإنتاجية الهامة كالزراعة، يشير إلى أن الدور الوظيفي الأساسي للسلطة هو أمني بالدرجة الأولى، وذلك انسجاما مع روح اتفاقيات أوسلو وملاحقها الأمنية.  وحيث أن موازنة السلطة الفلسطينية رهينة للمنح والقروض والمرتجعات الضريبية التي تتحكم بها إسرائيل، فلا يمكننا بالتالي اعتبار تلك الموازنة رمزا من رموز السيادة، كما هو حال الدول ذات السيادة.

وفي ظل اقتصاد زراعي فلسطيني يواجه منذ عقود طويلة عملية إسرائيلية منهجية لتحطيم مقوماته، وسوق فلسطيني محاصر ومخنوق لا ينطبق عليه ما يُسمى بقوانين السوق المتعارف عليها، فالأوْلى أن يحصل الفلاحون الفلسطينيون على الدعم المادي والمالي، وإعفاء منتجاتهم من الضرائب بكافة أنواعها، ومنع استيراد السلع الزراعية الإسرائيلية والأجنبية المحمية والمنافسة والتي تتمتع بميزات تسويقية غير عادلة؛ وبالتالي حماية المنتجين المحليين من الضغوط السياسية والاقتصادية الخارجية.

بدلا من ذلك نجد أن سياسات السلطة الفلسطينية محبطة للاستثمار في الأرض والإنتاج الزراعي، وذلك من خلال فرضها ضريبة الدخل الزراعي والرسوم والضرائب المرتفعة الأخرى (الإفراز والطابو وما إلى ذلك)، واستخدام الأراضي الزراعية لصالح ما يسمى “المناطق الصناعية المشتركة” التي تخدم أساسا جيوب رأس المال الخاص المحلي والأجنبي والإسرائيلي بالدرجة الأولى، بل واستملاك أراضي الفلاحين (من خلال ما يسمى الإدارة المدنية التابعة للاحتلال) لصالح مثل هذه المشاريع؛ في الوقت الذي يتوسع فيه المستعمرون الإسرائيليون عمرانيا وزراعيا أيضا في امتدادات تلك الأراضي أو على تخومها؛ ما يسهل بالطبع نهبها من قبل الاحتلال ومستوطنيه.

مدير وحدة الدراسات في مركز العمل التنموي/ معا