أيقونات ديوانية... "الشامية" مهدُ الانتفاضات الوطنية
لم تكن " الشامية " يوماً مجرد مدينة خاضعة إدارياً الى "لواء الديوانية" فحسب، بل كانت أيقونة نضالية وواحدة من المحطات المضيئة في تاريخ الحركة الوطنية العراقية، فقد أنجبت هذه المدينة الخضراء ببساتين النخيل وحقول عنبرها الفوّاح برائحة الحياة الكثير من الرجالات الذين لعبوا دوراً مؤثراً في تاريخ العراق السياسي والاجتماعي والاقتصادي، كما أسهم ريفها الجميل اسهامة فاعلة في مساندة الحركات والانتفاضات الوطنية التي شهدتها المدينة إبان العهد الملكي وذلك من خلال ايوائها للوطنيين الملاحقين من قبل اجهزة أمن السلطات القمعية بعد الهجمة البربرية في شباط عام 1963 اذ واصل الكثير منهم نضاله السياسي من محل اختفائه في قرى الشامية ومنها قرية الخشانية، ولا ننسى احتضانها للمبعد الشاعر الفلسطيني معين بسيسو حيث عمل معلماً فيها للأعوام 1951 ــ 1952 ومساهمته في دعم الحركة الوطنية التي تقودها القوى اليسارية في المدينة، كما أن الزعيم عبد الكريم قاسم وقبل أن يصبح رئيساً لجمهورية العراق عام 1958 كان قد عمل معلماً في الشامية وذلك في تشرين الثاني من عام 1931 وقضى فيها سنة كاملة.
"لو بالنص لو زرعة ايفوته"
لقد سجّل التاريخ لهذه المدينة عدداً من المواقف الثورية والوطنية ومن أبرزها انتفاضة الفلاحين عام 1954 التي أشعلها فلاحو المدينة وانضم اليها الطلاب واصحاب المحال البسطاء حيث قدمت هذه الانتفاضة صورة معبرة عن تنامي الوعي الوطني في أرياف العراق ومستوى التحدي والمواجهة للسلطات الحاكمة، فبعد انتفاضة العراقيين عام 1948 ضد معاهدة بورتسموث التي أراد لها النظام الملكي تكبيل العراق سياسياً واقتصادياً بقيود الاستعمار البريطاني أخذت مشاعر الكراهية والتحدي لسياسة الحكم الملكي تأخذ بالازدياد وكانت دعوة الشخصية الوطنية "هديب الحاج حمود" الى تطبيق الحاصل مناصفة بين الملاّك والفلاحين بدلاً من الثلثين بالثلث بمثابة الشرارة التي اشعلت انتفاضة 1954، فقد أثارت هذه الدعوة حفيظة الملاكين ووقوفهم بالضد منها، قابلها مساندة جماهيرية لها حيث نزلت الجماهير الفلاحية الى شوارع المدينة هاتفة ومهددة (لو بالنص لو زرعة ايفوته)، والتحمت معها جماهير الطلبة في هذه المنازلة الوطنية ومن بينهم السياسي والاقتصادي "د. مهدي الحافظ" الذي كان آنذاك طالباً في الرابع العام لتؤيد الهتافات والهوسات التي جسدت ظلم الاقطاع للفلاح وغياب العدالة وسرقة الجهود التي يبذلها الفلاح بالكدح والتعب (انته العنبر حايل عندك.. وآنه إجميغ ماعنديش) وكذلك الاهزوجة التي تجسد الفقر الذي كان عليه الفلاح العراقي (دوشك فوك الدوشك وآنه غطاي البوه)، حيث ارعبت هذه الأهازيج الحكومة القائمة ولجأت الى قمعها بقوة السلاح وقامت بحملة اعتقالات واسعة للمشاركين.
ونتيجة لحملات التضامن من قبل الحزب الشيوعي العراقي الذي أصدر بياناً في شباط 1954 دعا فيه الى تبني مطالب الفلاحين واطلاق سراح المعتقلين وكذلك الموقف الوطني لبعض العشائر المتنفذة في المنطقة وزياراتها المستمرة للمعتقلين والموقف الرائع للصحافة ونقابة المحامين في مطالبتهما باطلاق سراح المعتقلين، أسفر هذا التضامن عن اطلاق سراح المعتقلين بعد شهر من الاعتقال والغاء قرارات الفصل بحق الطلبة واصدار سلطات العهد الملكي مرسوماً ينص على جعل قسمة الحاصل مناصفة بين الملاّكين والفلاحين، وبهذا التلاحم الذي كانت "الشامية" سبّاقة له حققت الانتفاضة مطلبها الرئيس الشامل لكل مناطق العراق.
" قصر الملك غازي" .. شاهد على صفحة من التاريخ
على مقربة من أحد الأنهار المتفرعة عن الفرات وبين غابات كثيفة من بساتين النخيل في منطقة "صدر الدغارة" 30 كم عن مركز مدينة الديوانية ــ يغفو قصر متواضع يعد واحداً من أهم المواقع التراثية في مدينة الديوانية، وأحد الشواهد على حقبة من تاريخ العراق السياسي خلال فترة الحكم الملكي ذلك هو "قصر الملك غازي" الذي للأسف ظل طيلة اكثر من ثمانين عاماً يعاني الاهمال ويفتقر الى الكثير من البنى التحتية التي يمكن أن تجعل منه قبلة لاستقطاب السائحين، حيث يصف د. حسين قاسم صالح درجة الاهمال في قوله (والحق أقول أن قصر الملك غازي لو كان فيه ما يستحق النهب لنهبوه).
وقد تعددت الروايات التي قيلت في اسباب بناء القصر عام 1923 في هذه المنطقة، فمنها ما تعزو السبب الى سحر الطبيعة التي جعلت المكان اشبه بالواحة الجميلة دفع الملك "فيصل الأول" الى بناء القصر ليكون راحة العائلة المالكة أيام العطل، فيما ترى أخرى أن الدافع سياسي يتمثل في حاجة الملك لدعم شيوخ العشائر لاسيما شيوخ الفرات الأوسط حيث كبارهم في الديوانية، فيما تسرد الدكتورة "الينور روبنسن" سبباً آخر لبناء القصر يتلخص في أن العراقيين عندما اختلفوا على من سيكون ملكاً عليهم بعد سقوط الدولة العثمانية اتفقوا بعد ذلك أن ينصّبوا فيصل بن الحسين ملكاً على العراق وكان على رأس الوفد الذي ذهب اليه رؤساء قبائل الديوانية، وحين أصبح (فيصل الأول) ملكاً على العراق، لم يرض عن سياسته عشائر أهل الفرات فذهب الملك بنفسه الى ديوان الشيخ عبد الواحد سكر في المشخاب وحدث مالم يتوقعه أحد إذ تصدى للملك الشاعر المهوال "مكطوف بن جياد الظالمي 1901 ــ 1962" حيث وقف امامه وصدح بأهزوجه ظلت الاجيال تتداولها منذ ذلك التاريخ:
يمنادي الشعب لبّاك من ناديت
ذبحت أهل الفرات عليك مابقيت
سويتك حكومة وسلميتك بيت
شلون تسلم البيت لمطرة
ومطرة تصاوغ بيه
أي لقد ضحينا الكثير ونحن الذين جعلناك حكومة وسلمناك بيت العراقيين، فكيف تسلمه الى رئيس وزراء ينهب ثروات الوطن للأجنبي، لقد ظل هذا الاثر التاريخي بعيداً عن رعاية الحكومات المتعاقبة ويفتقر الى بعض المستلزمات البسيطة التي يمكن أن تجعل منه مرفقاً سياحياً مهماً تؤمه العوائل أيام العطل والمناسبات المتنوعة.
"مدرسة التهذيب".. حاضنة مؤتمر أنصار السلام 1959
تحتل مدرسة التهذيب مكانة مهمة في حياة المجتمعات الراقية، فهي صرح تربوي لا يقتصر دوره على العطاء والتلقين النظري للمعارف والعلوم انما لها دور مهم وفاعل في مجال تنمية الوعي وغرس القيم الوطنية والاخلاقية وتهذيب سلوك الأجيال من أجل اعدادها اعداداً سليماً خالياً من العقد والأمراض الاجتماعية . وتعد مدرسة " التهذيب " في الديوانية واحدة من المدارس التي نهضت بهذا الدور التربوي والاخلاقي، فهي ومنذ تأسيسها عام 1950 كانت مركز اشعاع معرفي ووطني في المدينة، فقد احتضنت العديد من الفعاليات الثقافية والوطنية التي ظلت خالدة في ذاكرة ابنائها، ذلك انها صُممتْ بشكل يلبي الحاجات الاساسية للطلاب وأنشطتها المتنوعة مما جعل منها مسرحاً وفضاءً للكرنفالات الوطنية والفنية والرياضية، حيث كانت في المدرسة قاعة نموذجية تضم مسرحاً شهد العديد من الفعاليات الخطابية والمسرحية والموسيقية، كما ضمت مرسماً يرتاده الطلاب من اصحاب المواهب في الرسم وبإشراف معلم الفنية الاستاذ الخطاط " كاظم سهيل" الذي سهر طويلاً على صقل مواهب العديد من الطلبة الذين أصبحوا اليوم فنانين وصلوا الى العالمية، كما تألفت فيها حركة كشفية وجوقة موسيقية من الطلاب يرافق عزفها أناشيد الاصطفاف الصباحي بإشراف الاستاذ "مكي التعيسي" وبمتابعة أول مدير للمدرسة الاستاذ " عبد الزهرة غضبان " ، وضمت المدرسة أيضاً ساحة كبيرة لكرة القدم لعب على ارضها في ستينيات القرن الماضي أساطين الكرة العراقية منهم الراحل "عمو بابا" عندما كان لاعباً في صفوف فريق مصلحة نقل الركاب وايضاً اللاعب الشهيد "بشار رشيد".
تمثالا العامل والجندي المجهول
كما اقيمت على ذات الساحة استعراضات لرقص الباليه والعاب القوى، فكانت "مدرسة التهذيب " بحق مهداً للعلم والتربية والتهذيب، حيث عمل كادرها التدريسي بكل شرف على متابعة المواهب وتنميتها فكانت حصيلة جهودهم أن تخرج منها عدد كبير من الأدباء والفنانين والرياضيين، وبلغت المدرسة منزلة عالية من الشرف يوم احتضنت مؤتمر السلام في شباط من عام 1959 الذي حضرته القوى الخيرة والمحبة للسلام والديمقراطية من انحاء العراق كافة، وكان من بين الحاضرين المفكر الشهيد " حسين مروه " و الشاعران الكبيران محمد مهدي الجواهري ومحمد صالح بحر العلوم، وسط استقبال جماهيري يقف في طليعة المستقبلين الفاعلين الاستاذ " شاكر محمود التميمي "، وقد توسط المؤتمر مجسم كبير يمثل حمامة السلام نفّذه الفنان النحات " صالح جاسم العامري" صاحب تمثالي العامل والجندي المجهول، وكان المؤتمر بمثابة كرنفال كبير، حيث تخلل منهاجه الواسع اهازيج وهتافات تدعو للسلام وتنشد للجمهورية الفتية، وقد انطلقت أعمال المؤتمر مع تحليق الحمامات البيض التي أطلقها في سماء المدرسة المعلم المناضل علي عباس الفزع. وقد دأبت المدرسة على عدد من التقاليد التي تهدف الى مساعدة الطلبة الفقراء وتذليل الصعوبات التي تقف في طريق مواصلة دراستهم ومنها نظام التغذية المدرسية وكذلك في مبادراتها المتعددة لإلغاء الفوارق الطبقية عن طريق توزيع الكسوة الصيفية والشتوية وكان ينهض بهذه المهام كادر تعليمي هم بمثابة آباء ومربون اتذكر منهم الذين سهروا على تعليمي الابجدية الأولى المدير اللاحق للمدرسة عبد الواحد سنيد، راجي مال الله، كريم دوحي، عبد الرزاق الاسدي، موسى ملاغي، عبد علي كاظم خزيمات، كاظم شامخ، صلاح القزويني، شاكر محمود التورنجي، مكي التعيسي، كاظم سهيل، نجم عبد، مهدي الجنابي، عبد الرزاق ناجي، زغير كاظم ، محمد مزعل، كامل جاسم، محمد جاسم عيسى.
ولكن مايحز في النفس أن المدرسة تعيش اليوم حالة من الإهمال والتجاوز وتتعرض الى الاساءة من بعض الجهلة بسبب وجودها وسط الأسواق والأنشطة التجارية المتعددة، لهذا أشعر بالأسى لضياع هذا الإرث الذي كان يوماً مناراً للعلم والتهذيب.