الأسلحة الكيميائة...أداة إبادة رخيصة الثمن فائقة التدمير
تونس - مع عودة الحديث في الأيام القليلة الماضية عن استخدام نظام بشار الأسد للأسلحة الكيميائية في الغوطة الشرقية قبل بضعة أيام، وأسفر عن سقوط 78 مدنياً، عاد الجدل الدولي حول استخدامات المواد الكيميائية في الحروب إلى الواجهة مجددا.
وعلى ضوء الحديث المتواتر عن سهولة استخدام الأنظمة والدول لمثل هذه الأسلحة الكيميائية الفتاكة أصبحت لدى العالم مخاوف كثيرة من تواصل استخدامها رغم حظرها من قبل هيئات أممية منذ العام 1997.
وتتمتع الأسلحة الكيميائية برخصها وفعاليتها مقارنة مع نظيرتها التقليدية، ويتم إنتاجها بطرق سهلة حتى في المخابر البسيطة.
وعملية تصنيع السلاح الكيميائي ليست على درجة كبيرة من التعقيد مقارنة بالسلاح النووي والبيولوجي، وبالذات الأسلحة البدائية منه كغاز الكلور والتوبان.
لكن الكثير من المختصين يتّفقون على أن تدميره إجراء معقّد للغاية ومكلف، ويتطلب مراعاة العديد من المخاطر مثل التهديد للبيئة المحيطة واحتمالية انفجار السلاح أثناء تدميره مما يجعل قضية صنعه ومن ثم صعوبة التخلص منه من أصعب المهمات.
وتُعد كل من غازات الخردل، والسارين، والأعصاب "VX" والأرسين وسيانيد الهيدروجين والتابون والكلور والفوسجين من أشهر المواد الكيميائية السامة إذ تؤدي إلى أضرار في الأجهزة العصبية والتنفسية والعضلات والقلب.
ويعتبر غاز فلوريد الكبريت أكثر الغازات السامة شهرة، لما يخلفه من آثار كبيرة على البشر، حيث يؤدي إلى حروق في الجلد وتدمير للعضلات وانهيار الجهاز العصبي، فضلا عن فقدان البصر.
أما السارين والباتون، فتعرف بغازات الأعصاب أيضا حيث تؤثر على الجهاز العصبي وتؤدي إلى فقدان الوعي والعمى أو حتى الشلل.
في حين يُعد غاز "في إكس/ VX" أكثر غازات الأعصاب فتكا إذ يمكنه قتل الإنسان في دقائق معدودة .
ويصنف الكلور والفوسجين ضمن الغازات الخانقة حيث يؤثران على الجهاز التنفسي والقلب ويؤديان إلى الاختناق وتوقف مفاجئ للقلب.
أول استخدام للأسلحة الكيميائية
وقع استخدام الأسلحة الكيميائية سواء كانت بحالة غازات أو سوائل في الكثير من الحروب والمجازر على مر التاريخ.
وتختلف القراءات لدى المختصين بشأن أول مرة تم فيها استخدام غازات كيميائية في حروب بشرية
ورغم اعتقاد الكثير من المتابعين لملف الأسلحة الكيمائية أنه وليد العصر، فان تاريخ وجودها طويل ورافق الانسان طيلة قرون.
ويرجح أن يكون الهنود أول من استخدم أول السلاح الكيمائي في الحروب ضد أعدائهم ، ففي حروب الهند القديمة في حوالي العام 2000 ق.م شهدت استخداماً لأبخرة سامة تسبب "الارتخاء والنعاس والتثاؤب وفق المؤرخين.
وفي قراءات تاريخية أخرى، يعتقد البعض أن أول هجوم بهذا النوع من الأسلحة كان في القرن السادس قبل الميلاد في العهد اليوناني القديم، لدى حصار جيش أثينا لمدينة "كيرها".
وتقول الرواية إن الجيش استعمل نباتات "الخربق" بمياه الشرب ما أسفر عن تسمم جنود الأعداء والمدنيين بالمدينة.
ونفّذ الجيش الفرنسي واحدا من أكبر الهجمات الكيمائية حصدا للأرواح عام 1845، خلال احتلال الجزائر حيث حبس نحو ألف سجين أمازيغي في إحدى المغارات وقام بتسميمهم جميعا.
وتذكر كتب التاريخ في الجزائر أن الضباط الفرنسيين كانوا يخيرون المزارعين بين أن يقدموا لهم الأكل أو الإبادة عبر استعمال غازات سامة توضع في المأكل أو في المشروب.
وفي القرن العشرين، تم استخدام الأسلحة الكيماوية بكثرة حيث سقط أكثر من مليون شخص خلال الحرب العالمية الأولى نتيجة استخدام فرنسا وألمانيا وبريطانيا للغازات السامة.
وشهد القرن العشرين منذ بدايته تطوراً هاماً في إتقان استخدام وتوظيف الغازات السامة و توسيع مدى آثارها، خاصة إثر خبرة" حرب البوير" التي أظهرت إمكاناتها التدميرية الهائلة.
ومع حلول الحرب العالمية الأولى انتشر استخدام الغازات السامة التي لجأت إليها كافة الأطراف المشاركة فيها.
ولقد أدت الأسلحة الكيمائية إلى وقوع ما يتراوح بين 800 ألف ومليون إصابة في صفوف قوات روسيا وفرنسا وإنكلترا وألمانيا والولايات المتحدة إبان تلك الحرب.
و على الرغم من التطورات التي ضاعفت من قدرات الأسلحة الكيمائية، فإنه لم يتم استخدامها إبان الحرب العالمية الثانية.
جدل ابادة اليهود بغازات سامة
قتل الجيش الألماني النازي أثناء الحرب العالمية الثانية قرابة 3 ملايين يهودي، خنقا بغازات سيانيد الهيدروجين وأول أكسيد الكربون النقي في مخيمات خاصة أنشأها لليهود وأبرزها "آشويتز"، و"كوليمنو".
ومع اختلاف القراءات حول ما سمي بكارثة "الهولوكوست" لدى اليهود، يوجد إجماع دولي أن ما تعرضوا له هو ابادة جماعية قٌتل فيها ما يقارب ثلاثة ملايين يهودي على يد النظام النازي لأدولف هتلر والمتعاونين معه.
و يستخدم بعض المؤرخين تعريف الهولوكوست الذي يضم الخمس ملايين الإضافيين من غير اليهود في ضحايا القتل الجماعي النازي، ليجعل المجموع إلى ما يقرب الأحد عشر مليون.
و جرت عمليات القتل وفق المؤرخين في جميع أنحاء ألمانيا النازية والمناطق المحتلة من قبل ألمانيا في أوروبا.
وتم استهداف اليهود و قتلهم بطريقة ممنهجية خلال الفترة الممتدة من عام 1941 حتى 1945.
أميركا وابادة الفيتنام
من جهته ،استخدم الجيش الأميركية غاز النابالم خلال حرب فيتنام، والذي أسفر عن حروق في البشر إلى جانب آثاره الكبيرة على الحيوانات والحشرات والبيئة كما أدى إلى حرائق كبيرة بالبلاد.
وطورت الولايات المتحدة الأميركية مادة النابالم خلال الحرب العالمية الثانية لتدخل في المجال العسكري مباشرة، واستخدمتها في قصف مدينة ديرسدن الألمانية 1945 الأمر الذي خلف بين 25 إلى 40 ألف قتيل من المدنيين آنذاك.
أما الاستخدام الأوسع للنابالم فكان خلال الحرب الفيتنامية 1961- 1970 وأحرقت فيها المقاتلات الأميركية عشرات القرى الفيتنامية مسببة مجازر أزهقت أرواح آلاف المدنيين والمقاتلين.
وحسب تصريحات وزارة الدفاع (البنتاغون) فإن الجيش الأمريكي ألقى 100 ألف طن من النابالم على فيتنام بين عامي 1963- 1967.
في سياق متصل بارتباط اسم النابالم بأميركا ، أشارت تقارير ألمانية إلى استخدام الولايات المتحدة لهذه القنابل خلال الحرب على العراق عام 2003، مستندة إلى شهادة طفل عراقي أصيب بحروق كبيرة في جسده وفقد معظم أسرته نتيجة سلاح حارق ألقي على منزل عائلته، الأمر الذي قوبل بنفي قاطع من واشنطن آنذاك.
صدام استخدم الكيميائي
وفي عام 1988 سقط أكثر من 5 آلاف شخص جلهم من الأطفال والنساء إثر هجوم للجيش العراقي على مدينة "حلبجة".
ويتفق الكثير من المؤرخين على أن الهجوم ثابت وحدث في الأيام الأخيرة للحرب العراقية الإيرانية، حيث كانت مدينة حلبجة محتلة من قبل الجيش الإيراني.
وعندما تقدم الجيش العراقي الى المدينة تراجع الإيرانيون إلى الخلف وقصف الجيش العراقي البلدة بالغاز الكيميائي قبل دخولها مما أدى إلى مقتل أكثر من 5500 من الأكراد العراقيين من أهالي المدينة.
وعلّل النظام العراقي انذاك موقفه بالقول إن الهجوم قامت به القوات الإيرانية على السكان الأكراد ببلدة حلبجة الكردية.
و قُتل في الهجوم من سكان البلدة فوراً 3200-5000 وأصيب منهم 7000-10000 وكان أغلبهم من المدنيين.
ومات الآلاف من سكان البلدة في السنة التي تلت الهجوم نتيجة المضاعفات الصحية وبسبب الأمراض والعيوب الخلقية.
اختلافات حول التاريخ
يشدد الكثير من الخبراء على فرنسا هي أول من استخدمت هذه الأسلحة خلال الحرب العالمية الأولى وليس ألمانيا كما هو شائع، لافيتين إلى أن بريطانيا أسست وحدات خاصة للأسلحة الكيميائية، وأن الغازات السامة كانت تترك أثرا نفسيا عميقا لدى الجنود والمدنيين.
وكانت طرق الوقاية من الغازات السامة بدائية جدا ولكنها فعالة بنفس الوقت، إذ كان الجنود يستخدمون قطع مبلولة بالبول ويغطون بها أفواههم وأنوفهم حين وقوع الهجمات بالأسلحة الكيمياوية.
ويتم تفضيل استخدام الغازات السامة على الأسلحة التقليدية، لانخفاض تكلفتها وفعاليتها المدمرة.
ويعتقد خبراء أن استخدام هذه الأسلحة سيتواصل باستمرار مفهوم الحرب لدى البشر،خصوصا مع عودة الجدل حول استعمال الاسلحة الكيمائية من قبل نظام بشار الأسد المتهم بإبادة مدنيين في مدينة دوما بالغوطة الشرقية.
تجدّد الاتهامات للأسد
حسب الشبكة السورية لحقوق الإنسان (SNHR)، فإن نظام الأسد شنّ منذ بداية الاحتجاجات بالبلاد 215 هجوما بالأسلحة الكيميائية.
ووقعت مجزرة الكيميائي الكبرى في سوريا بمنطقة الغوطة الشرقية ومعضمية الشام بتاريخ 21 أغسطس / آب عام 2013، حيث راح ضحيتها أكثر من ألف و400 مدني، وتؤثر عدد آخر كبير غالبيتهم من الأطفال والنساء.
ويتهم النظام السوري بارتكاب ثاني أكبر مجزرة كيميائية له بتاريخ 4 أبريل / نيسان 2017 في مدينة خان شيخون بريف محافظة إدلب، إذ أسفرت عن سقوط أكثر من 100 مدني.
ومؤخرا بتاريخ 7 أبريل الجاري، تتهم قوات الأسد بتنفيذ مجزرة جديدة بالأسلحة الكيميائية في الغوطة الشرقية راح ضحيتها 78 مدنيا، جلهم أطفال ونساء.
وعقب مجزرة الغوطة الأولى عام 2013، ونتيجة للضغوطات الدولية الكبيرة، وافق نظام الأسد على تسليم وتدمير ترسانته من هذه الأسلحة تحت إشراف منظمة حظر الأسلحة الكيميائية.
وبالرغم من ذلك يتهم بشار الاسد بمواصلة استخدام الأسلحة الكيميائية فيما بعد، ما جعل الأمم المتحدة ومنظمة حظر الأسلحة الكيميائية تعلن أن الأسد لم يسلّم كامل ترسانته.
سوريا تعيد معركة القطبين
الهجوم الأخير على دوما والمتهم فيه الجيش السوري باستعمال غازات سامة، جعل الرئيس الاميريكي
دونالد ترامب يهدد روسيا الداعمة الأبرز لنظام الرئيس بشار الأسد من أن الصواريخ "قادمة" لضرب سوريا .
وتوعد ترامب عبر قائلا "تعهدت روسيا بضرب جميع الصواريخ الموجهة إلى سوريا. استعدي يا روسيا لأنها قادمة وستكون جميلة وجديدة وذكية! عليكم ألا تكونوا شركاء لحيوان يقتل شعبه بالغاز ويتلذذ بذلك".
ووصف ترامب العلاقات الروسية الاميركية بأنها "أسوأ الآن من أي وقت مضى".
من جهتها ردّت موسكو على ترامب بالقول إن على الصواريخ الأميركية ان تستهدف "الارهابيين" وليس "الحكومة الشرعية" السورية.
وأكدت في ردها على دعوة ترامب إنهاء سباق التسلح بأنها فكرة عظيمة لو يتم الانطلاق بالأسلحة الكيماوية الأميركية.
واشتبكت الولايات المتحدة مع روسيا بشأن سوريا في مجلس الأمن الدولي إذ عارضت كل منهما محاولة الأخرى لإجراء تحقيقات دولية في هجمات بأسلحة كيماوية في سوريا.
فيما اعتبر نظام الاسد في أول رد له على تهديدات ترامب ان الولايات المتحدة تستخدم فبركات وأكاذيب كذريعة لاستهداف سوريا، مضيفة أنها لا تستغرب مثل هذا التصعيد الأرعن من قبل رئيس الولايات المتحدة.
حظر الأسلحة الكيميائية
بُذلت محاولات عديدة حول العالم لحظر استخدام الأسلحة الكيميائية، تُوجت بتوقيع اتفاقية بهذا الشأن، ودخلت حيز التنفيذ بتاريخ 29 أبريل 1997.
وشملت الاتفاقية 192 دولة، في حين رفضت 4 دول فقط التوقيع عليها، هي إسرائيل، ومصر، وكوريا الشمالية، وجنوب السودان.
وتسهر منظمة الأسلحة الكيميائية وهي منظمة دولية يقع مقرها في لاهاي عاصمة هولندا، على تنفيذ وتطبيق معاهدة حظر الأسلحة الكيميائية التي تطبق من قبل الأعضاء الموقعين و المصادقين عليها.
وتم منح المنظمة جائزة نوبل للسلام لعام 2013 لجهودها واسعة النطاق للقضاء على الأسلحة الكيميائية.