مدلولات توظيف النصوص لدى الأفراد والمجتمعات..الجزء الرابع
حسن كاظم الفتال
دواعي توظيف الحديث
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ونحن نتعرض لمسألة توظيف الحديث علينا أن لا ننسى بأن للتوظيف هذا دوافع ودواعي كثيرة. فثمة من يحمل الحديث على محمل الظاهرية دون معرفة التأويل والتفسير. وحتى حين لم يحصل هذا فإن جاهزية الإبتكار يحيط بها البعض إحاطة تامة وأدواتها متوفرة. ومثلما ابتكر بائع اللحوم أو مستخدمها (آية) فلا تخلو الساحة من مبتكرين ومؤلفين وقارئين لآيات ينزلها وحي المنافع والمصلحة أو الجشع وما لف لفهم ويحصل أحيانا أن البعض حين يرتاد مجالس الفاتحة ويقطع حديثه ليشرب الماء أو ليتناول القهوة أو ليردد المقولة المتفق عليها والتي تشير إلى حضوره المجلس (رحم الله من يقرأ الفاتحة) فيستمع لآية أو لشطر منها من المقرئ فيحفظها ولكن ما أن يغادر مجلس الفاتحة حتى تغيب عن ذهنه نهائيا وإما أن يتذكر بعضا من مفرداتها فيصوغها كما يشاء. أو حفظ معناها.أو ربما يسمع من المذياع من مقرئ معين
وعندما يتاح له أن يمتلك شيئاً بأية طريقة كانت حتى لو غير مشروعة ويسأل عن ذلك يجيب على الفور مستشهدا بآيته (رزقكم في السماء وما توعدون) أو أنه يردفها بآية مبتكرة أخرى (على النيات يا عبادي ترزقون).وهاتان الآيتان لم يحن بعد موعد نزولهما
قناة الإستخدام الديني
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
وحين نتجاهل أو نغض الطرف عن الصنف الذي عمد إلى تحريف الآيات أو الأحاديث أو عمن أخذ الوجه الظاهر للآية أو فسر مضمونها بما يروق ويحلو له أو بما يتناسب مع ما يرمي إليه من هدف أو غرض أو أية مصلحة معينة. فثمة صنف آخر ممن يستخدم الآيات استخداما صحيحا مع ضبط الآية وحتى مراعاة سلامة النطق إنما يعمد بتوظيفها ببراعة بشكل أكثر دقة من سواه ولو أردت أن أطيل الحديث بالإستشهادات فذلك بوسعي لكي أعضد هذا القول بعشرات الأمثال ولكن على نحو السرعة أقول: من يلازمه البخل في كل موطن ويبخل ويقتر حتى على أبناء أسرته ولم يسمع قول الله تعالى: (ولا يَحسَبَن الذين يَبْخَلُون بما آتاهُم الله من فضْلِه هو خيراً لهم بل هو شرٌ لهم سيُطَوَّقون ما بَخَلوا به يومَ القيامة) ـ آل عمران/ 180 فمثل هؤلاء ما أن يوجه إليه أي لوم أو تأنيب حتى يسرع في تضمين رده جزءاً من الآية الكريمة ويحذف الجزء الأول فيقرأ (ولا تُسرفوا إنه لا يُحبُ المسرفين) ـ الأعراف /31 ويستبعد أو يتجاهل (وكلوا وأشربوا) أو(آتوا حقه يوم حصادِهِ) ـ الأنعام / 141
وأما الذين يكنزون الذهب والفضة إذا لجأ إليهم أحد طالبا منهم إعانة المحتاجين من فقراء المسلمين المستحقين للصدقات فحين يقرأ الطالب منهم آية: (في أموالهم حق للسائل والمحروم) ـ المعارج / 25
فسرعان ما يلجأ هو إلى المراوغة وإلى التملص وحين يجد نفسه بين كماشتين فيلجا لذر الرماد في العيون باستناده إلى الحديث النبوي الشريف (الناس مسلطون على أموالهم).. أو ينطلق فور أنتهاء القائل من قوله إلى حديث شريف يتخذ منه حكمته المفضلة ألا وهو: (قال أمير المؤمنين صلوات الله عليه: (لا يحل مالُ امرئٍ مسلمٍ إلا عن طيب نفس)
سئل الصادق صلوات الله عليه عن قول الله عز وجل: (وفي أموالهم حق للسائل والمحروم) ـ المعارج / 25 قال: (هذا شيء سوى الزكاة، وهو شيء يجب أن يفرضه على نفسه كل يوم، أو كل جمعة، أو كل شهر أو كل سنة). الهداية / الصدوق
وقد سمعت أحدهم ممن يكنزون الذهب والفضة وهو يتعرض لمسائلة الأحباب عن عدم إعانة بعض أرحامه المعدومين يتساءل: (أنا اشتغل للنايمين للظهر)؟..
بينما إذا أتيح له أن يتبجح ويعلن عن (خوارديته) فيبذخ ويبذل ما شاء من الأموال لموائد الطعام بما لذ وطاب ولكن شريطة أن يكون على من أتخمه المال وهذا ما دعاني أن أقول في أحدهم
فميسورٌ إذا جئناهُ نرجو** بإنفاقٍ يعين المعوزينا
لننقذَ من شفا جرف انحراف** رجالا أو نساءً جائعينا
ونبعدُ من نَسِي للحمِ طعما** بجوعٍ عن مسار المذنبينا
تراه يماري معتذرا ولكن** يجود تبجحا للمترفينا
يقيمُ وليمةً كي يدعو فيها** وجيهاً متخماً نهماً سمينا
ويبقى الجائعون وراء سورٍ** وعن شرفِ الوليمة مبعدينا
فتلقاهم وحقِك باعتصارٍ** وشوقٍ (للفضالةِ) منظرينا
وقال تعالى: (فلا تُعْجِبْكَ أموالُهُم ولا أولادُهُم إنما يُريدُ اللهُ لٍيُعَذِبَهم بها في الحياةِ الدنيا) ـ التوبة/ 55
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنه قال: (اللهم أرزق محمدا وآل محمد ومن أحبهم، العفاف والكفاف، وارزق من أبغض محمدا وآل محمد المال والولد.. فقه الرضا / علي بن بابويه
وروي: أن قيما كان لأبي ذر الغفاري رضوان الله عليه في غنمه، فقال: قد كثر الغنم وولدت، فقال: تبشرني بكثرتها، ما قل وكفي منها أحب إلي مما كثر وألهى. ـ (فقه الرضا ـ علي بن بابويه)
وخير ما فعل أصحاب المهن وأرباب الحرف حين وظفوا النصوص والأحاديث لصالحهم حين تذكروها
ولكي لا نذهب بعيدا فهاهو بائع عصير الزبيب لم يقرأ من أحاديث الأئمة الأطهار صلوات الله عليهم إلا قول الإمام الصادق صلوات الله عليه عن الزبيب ولا أريد أن أدرج الحديث حتى يمر كل منكم على البائع نفسه ليتناول العصير حتى وإن اتخذتم من هذا القول دعاية وإعلانا
لا شك أن كلا منكم الآن تستيقظ في ذهنه عشرات بل ربما مئات الأحاديث المشابهة والتي تسند هذا الموضوع فاستذكروا وأكملوا الحديث لأني سوف أتوقف عنه الآن عن الحديث.
وأدرج ما نظمت من أبيات شعرية تتناغم مع هذا المعنى:
اصمت إذا شئت إن الصمت مأثرة ** في ذا الزمان وفيها يسلم الحكما
لا تزرع القول إلا في ربوع هدى** ولا تكن حاصدا من قولك الندما
فكفة الجهل في الميزان قد رجحت** والجاهل اليوم أمسى يغلب العلما
إن الجهالة قد مدت حبائلها ** فاصطادت الخير كي تبقي لنا اللؤما
لا تحسب النطق إن تأتيه منقبة ** فالسوط بالأمس كم رأيٍ لنا كتما
كل إلى العلم أمسى يدعي نسبا ** قل هل يضيف لهم ذا الإدعا عِظَما
في كل عصر نرى للمدعين أخا ** يستأثر الجهل إذ يلقى به النعما
فيجعل الواضح المفهوم ملتبسا ** حتى يصيب عيون الباصرين عما
كم صادق قال لكن كذبوه وكم ** قد صدقوا كاذبا إذ حرف الكلما
لا تنهل العلم إلا من منابعه ** من أهل بيت نجا من فيهم اعتصما
أهل الرسالة والتقوى وهم نعم ** من لم يبدل بهم كفرا فقد سلما
هم صفوة الله من نور له شُطِروا ** أعزهم بل أتاهم في الهدى حكما
وقد ورد باسناد إلى يونس بن ظبيان عن أبي عبد الله صلوات الله عليه إنه قال له يا يونس: (إذا أردت العلم الصحيح فخذ عن أهل البيت صلوات الله عليهم فإنا رويناه وأوتينا شرح الحكمة وفصل الخطاب، إن الله اصطفانا وآتانا ما لم يؤتِ أحدا من العالمين).
لا ننسى أن لتقبل الرواية أسبابا ودوافع. وثمة أمر مهم وهو العامل النفسي الذي يؤدي دورا مهما و يتدخل تدخلا مباشرا في عملية القبول والرفض
ولعل القناعة لها دورها أيضا وأثرها البارز في استخدام الحديث من جهة والترويج له ومن جهة أخرى قبوله من قبل الآخرين.
لعل من استخدام الأحاديث دون قناعة أن يستخدمها الفرد للترويج لها ولكنه لم يكن مقتنعا بها أو بترويجها قناعة تامة
تدبيج الحديث لا يخلو من فائدة تعود على من يلقي الحديث إذا كان بارعا في وضع ديباجة جميلة تجمل الحديث وتلبسه حلة جديدة فتقربه للعقل بدليل أو شاهد يغري السامع حتى وان كان ذلك الدليل مفتعلا ومصطنعا وتكون هذه الديباجة وسيلة جذب وإقناع حتى باستخدام الخدعة.