الدروس المُستفادة من الأزمة الروسية الأوكرانية
"يوجد كثير من القضايا الخلافية بين السياسيين والمفكرين والأحزاب في روسيا، ولكن مسألة توسع الناتو شرقًا، خاصةً بعد مرور ثلاثة عقود على تفكك الاتحاد السوڤيتي، خلقت وعيًا شعبيا ونخبويًا بأن المسألة تكمن في موقف الغرب "العدائي" تجاه روسيا، ولا علاقة لها بالأيديولوجية الشيوعية التي ظن بعضهم أنها مصدر الخلاف الرئيسي مع الغرب، وأن هذا الخلاف سيزول بزوال الاتحاد السوڤيتي من الوجود" . مواجهة مؤجلة منذ ثلاث عقود- أحمد دهشان- مركز الدراسات العربية الأوراسية.
على الرغم من الولاء غير المحدود الذي يحظى به بوتين من قبل الأوليغارشية الوطنية، والتي توصف عادة بالفاسدة، إلا أن هذا الامر لا يجعلها في دائرة المساومات الرخيصة لو تعلق الامر بالأمن القومي الروسي. فهذا هو جوهر الكلام هنا، بمعنى إننا لا نحظى حتى بمثل هذه الاوليغارشية الفاسدة في العراق ذات التوجه القومي، التي لا تساوم على مصالح البلد العليا. فلعل الضرورة التاريخية تدفعنا للتبصر بالعبرة المستفادة من هذه الصراعات الدولية ونفهم مغزاها ومعناها، عسى أن تدرك نخبنا السياسية في نهاية المطاف أن المساومة على الأمن القومي تعني ضياع الأوطان مهما كانت جيرتنا مع الآخرين تتمتع بأواصر تاريخية متينة.
الوشائج العقائدية مقدمة على كل شيء في العراق حتى لو تعرّض الأمن القومي إلى اختراق سافر
فربما من المستحسن أن نسلط الضوء لأخذ العبرة، وإن كان الأمر بعيد المنال في الوقت الراهن، لكن لا يمنعنا هذا القيد من توضيح الفوارق المرعبة حتى على مستوى المفاهيم، التي تتعلق عادة بالمقاربات والصيغ الدلالية لما يسمى بـ "الاستبداد الشرقي"، فمن المرجح سنكون خارج دائرة هذه المقاربات، من خلال العرض السريع للصراع المزمن بين دول الأطلسي وروسيا من جهة، والأزمة الروسية الأوكرانية التي طفت على السطح هذه الأيام من جهة أخرى، سيبدو الأمر أكبر من استبداد وديمقراطية، بقدر ما يتعلق بمعركة حامية الوطيس على ما يسمى بنظرية "قلب العالم"، تلك النظرية السياسية التي وضعها العالم البريطاني جون ما كندر. وهي معركة تدور راحها للحفاظ على مكتسبات الأمن القومي.
اقرأ/ي أيضًا: الخارجية توجه باتخاذ الإجراءات الممكنة لحماية الجالية العراقية في أوكرانيا
كان الروس، شعبًا وقيادات سياسية، من البراءة بمكان لدرجة أنّهم كانوا يعتقدون أنهم سينعمون بعلاقات مثالية مع الغرب لمجرد زوال الأيديولوجية الشيوعية الحاكمة آنذاك. وكان معظم المهتمين بالشأن الدولي يحدوهم ذات الأمل، إذ بعد نهاية الحرب الباردة، مثلما هو مُؤَمَّل، سترجع الأنظمة إلى رشدها، ويتم تفكيك حلف الناتو الذي صُمّمَ على أساس ردع التمدد الروسي، ويبدأ عصر جديد قوامه الازدهار الاقتصادي، والسياسي، والثقافي، بين المعسكرين، الذي من شأنه أن يحقق الازدهار لكلا شعوب أوروبا وأمريكا.
حتى أن غورباتشوف، وعلى أثر المفاوضات التي جرت بينه وبين جيمس بيكر على أثر تفكك الاتحاد السوفيتي، لم يكن ليحتاج من جيمس بيكر ضمانات مكتوبة بشكل رسمي لطمئنة روسيا بعدم تمدد حلف الناتو، فطلب غورباتشوف من زميله الأمريكي كلمة شرف فقط! وهذا ما أثار استغراب أعضاء حلف الناتو، وبالأخص الأمريكيين، على أثر المطالبات الروسية بالتزامات حلف الناتو، إذ لم يكونوا ملزمين بأي ووعود شرف هم ملزمون ما تمليه عليهم المواثيق المكتوبة فحسب! فذهبت في حينها آمال الروس أدراج الرياح، وتبين أن أشخاصًا حالمينَ وخاضعين مثل غورباتشوف، لا يمكنهم قيادة المسيرة الطويلة لبناء دولة قوية ومقتدرة لا تساوم على أمنها القومي، وتكتفي بمواعيد شرف كما لو أن العالم يدار بقصائد شعرية حالمة. وبالفعل تمدد حلف الناتو وأضحت روسيا محاصرة من جيرانها الذي كانوا يومًا ما تحت قبضة الاتحاد السوفيتي.
وعبثًا حاولت روسيا أكثر من مرة بمناشداتها المستمرة عبر استعدادها للدخول في حلف الناتو، أو تفعيل مبدأ الأمن المتكافئ لضمان الأمن القومي الروسي، إذ بات حلف الناتو على مشارف الحدود الروسية. وكالعادة كانت روسيا تستقبل ردودًا ذات صيغة عمومية ومبهمة. إن روسيا الأرثدوكسية، بنظر أوروبا، لا يمكنها أن تكون صديقة، وينبغي لها أن تبقى تلك الإمبراطورية ذات التاريخ التوسعي، التي لا تمت باي صلة للتقاليد المسيحية الأوروبية البروتستانتية، وينبغي أن تُعامَل باستعلاء أوروبي واضح، حتى أن وزير الخارجة الأسبق مادلين أولبرايت وصفت بوتين بـ"الوجه الشاحب الشبيه بالضفدع". وينبغي أن تبقى فوبيا روسيا هي الشغل الشاغل في أروقة صنع القرار الغربي.
ظلت روسيا منذ ذلك الحين تحاول توضيح وجهات نظرها تجاه أمنها القومي، وبالخصوص ما يتعلق بمحاولات جورجيا وأوكرانيا الدخول في حلف الناتو، لكن لم تُؤخَذ كل هواجسها القومية بنظر الاعتبار، فمن المعلوم لذوي الشأن أن دخول جورجيا وأوكرانيا يعني تقزيم روسيا وتهديد أمنها القومي، وستصبح موسكو هدفًا قريبًا وسهلًا لصواريخ حلف الناتو، وهذا ما يجعل موسكو حازمة في قرارتها الأخيرة، حتى لو كلّفها الدخول في حرب طويلة الأمد. فإذا تعلق الأمر بالأمن القومي فلا قيمة للقانون الدولي، ذلك أن صراع الوجود أقدس من كل المواثيق الدولية، وهذا بالعادة ما تفهمه النخب التي تمتلك وعيًا عاليًا بقيمها الحضارية والقومية ومصالحها الاقتصادية وتاريخها السياسي.
إن العبرة المستفادة والخلاصة الوافية التي يمكن أن نخرج بها، هي أن جيراننا مهما كانت تربطنا بهم أواصر أيديولوجية أو أبعاد عقائدية دينية، فسيبقى الواقع الجيوسياسي هو في سلّم الأولويات لأي بلد يحترم خصوصياته، وسيبقى الأمن القومي مُقَدّم على أي تأصيل عقائدي مهما كانت جذوره التاريخية ضاربة بالقدم؛ فتاريخ العلاقات الأوكرانية الروسية والتداخل الثقافي العميق بين البلدين لم يمنع أوكرانيا من الرغبة العارمة لدخولها حلف الناتو، على الرغم من علمها بخطورة هذه الرغبة وما يترتب عليها من خراب عظيم، ستكون أولى مبادراته دخول هذه الدولة في حرب استنزاف طويلة الأمد، ستكون روسيا هي المنتصرة فيها بحكم تفوقها العسكري.
النخبة الفاسدة المتواجدة في الخضراء فوق المنطق ولا يمكن لأكبر حدث في التاريخ أن يوقظها من سباتها العميق
أما ما يحدث في منطقتنا، وفي العراق خصوصًا، نجد المعادلة مقلوبة على عقبيها، ذلك أن الوشائج العقائدية مقدمة على كل شيء، حتى لو تعرّض الأمن القومي الى اختراق سافر فيكفي في هذا الشأن ان يضمن السلطويون مقاعدهم السيادية في الحكومة وما عدا ذلك فهو أمر هامشي. عادة ما تدرس هذه الصراعات الدولية في كبرى الأكاديميات السياسية لأخذ العبرة منها واستخلاص الدروس المستفادة من أحداثها، إلا هذه النخبة الفاسدة المتواجدة في الخضراء فهي فوق المنطق ولا يمكن لأكبر حدث في التاريخ أن يوقظها من سباتها العميق.
اقرأ/ي أيضًا:
مستذكرين عواقب الحروب والاستبداد: تفاعل عراقي مع الحرب الروسية - الأوكرانية
الخطوط الجوية: عدد العراقيين في أوكرانيا مجهول ولم نتلق طلبًا للإجلاء