إحسان الجيزاني... التشابه بين البلدين اللذين يعيشان على الماء
أصبح الفنان إحسان الجيزاني مُصوّراً فوتوغرافياً عالمياً، في بلد إقامته ألمانيا، رغم عشقه السينما، التي أراد دراستها في بداية شبابه، لكنّ طلبه رُفض بسبب اشتراطات سياسية، حينها، في بلده العراق. أخرج أفلاماً وثائقية عدّة، وأقام معارض فوتوغرافية تناولت هموم الإنسان والبيئة في العالم، بين عامي 2002 و2019، في ألمانيا والعراق والبحرين وبريطانيا وأميركا وفرنسا والدنمارك واليونان وإسبانيا، وغيرها.
شغل منصب نائب رئيس "النادي الألماني للفوتوغراف ـ كاميرا 66" في شتوتغارت الألمانية. عضو في "الاتحاد الألماني للمُصوّرين" و"نادي كاميرا 66" الألمانيين، و"الجمعية العراقية للمُصوّرين". نال جوائز عدّة، ولُقِّب بالمُصوّر الثوري، وسفير الأهوار في الخارج. قبل وقت، أنجز المخرج عبد الرزاق حسين "الميزوبوتاميا بعدسة إحسان الجيزاني"، وثائقي عن عدسة تدافع عن تاريخ العراق وحضارته، مدّته 45 دقيقة. "العربي الجديد" التقت الجيزاني في حوار عن تجربته المهنية.
مُصوّر فوتوغرافي معروف في العراق ومغتربك الألماني. ما سبب اشتغالك في السينما أيضاً، إلى جانب التصوير الفوتوغرافي؟
بدأ ولعي بالفنّ في بلدي، ما سهّل الوضع لي في مغتربي الألماني. لكنّ ألمانيا عَرفَتني قبل العراق، ومنها انطلقت شهرتي في أوروبا والعالم. في بداية حياتي، كنت مُولعاً بالفوتوغراف. حاولت دراسة السينما في "كلّية الفنون الجميلة" في العراق، لكنّها رفضتني، واشترطت أنْ أنتمي إلى الحزب الحاكم. هذا جعلني أصرّ أكثر على تحقيق هدفي، السينما. في هروبي من العراق، رافقني كتاب "فهم السينما" للوي دي جانيتي، الذي ترجمه المخرج العراقي جعفر علي. لم يفارقني الكتاب في عبوري حدود دول كثيرة. وصل بي الحال إلى أنْ أرمي أشياء ثقيلة كثيرة، لكنّي احتفظت به.
الفوتوغراف والسينما وسيلتا تعبير لإيصال رسالة. في "الجذور"، فيلمي الوثائقي الأول، حاولت تلخيص السنوات الأخيرة قبل تجفيف الأهوار، وقتل كلّ صُور الحياة فيها على يديّ النظام الاستبدادي الحامل شعار الموت. رسالة إلى العالم أجمع، المهتمّ بالبيئة، دولاً ومؤسّسات معنيّة، لتكون التفاتة شبيهة بحملة الجيوش الجرارة التي أتت، بين ليلةٍ وضحاها، إلى العراق، من أجل البيئة وأسلحة الدمار الشامل كما تدّعي.
لمنطقة الأهوار العراقية مساحة كبيرة في اشتغالاتك الفوتوغرافية والسينمائية.
في العراق، المشهد الثقافي مُقصّر في مسألة معاناة البلد. لو كانت لدينا رسالة من شاعر أو أديب أو فنان تصل إلى الشارع وتأخذ صداها، لما باع السياسي العراقي الفاسد بلده في وضح النهار، بدليل أننا لم نر سوى محاولات خجولة في الإشارة إلى الجفاف كواقع حال. لم يستعرضوا حلولاً ونتائج، لا في الإعلام ولا في المؤسّسات الثقافية. لذا، أحاول بعث الروح عبر مَعارضي، مُذكّراً المسؤولين بهذه الكارثة التي ستؤدّي إلى نهاية عالم أوّل حضارة. حضارة لا تخصّ العراق وحده، بل العالم كلّه، لأنّها إرث حضاري إنساني: حضارة بلاد الرافدين.
بالتأكيد، لم ولن أتوقّف عن ذلك. في كلّ معارضي الشخصية وأفلامي، تناولت مواضيع الاقتصاد والسياسة والبيئة والطفولة والتاريخ.
فيلمك الوثائقي "فينيسيا وأهوار العراق" عن الأهوار أيضاً.
اعتمدت فيه أسلوباً حيّاً، أجسّده في معرضٍ لي، "فينيسيا وأهوار العراق"، بالشراكة مع الفنان الإيطالي أنتونيو سانتور. المعرض مقارنة بين الحضارتين الإيطالية والسومرية بصورة ناطقة (الأهوار وفينيسيا)، وإيجاد التشابه بين البلدين، اللذين يعيشان على الماء. لكنْ، هناك اختلافات. في إيطاليا، الحكومات والسلطات المدنية تهتمّ بتراثها. عندما عُرف أنّ فينيسيا ستغرق، قاموا ببنائها لتعيش إلى الأبد. في العراق، تجفّ الأهوار، كنهري دجلة والفرات، أمام المسؤولين، ولم تتحرّك فيهم أيّ مشاعر. استوحيت من هذا المعرض فيلماً وثائقياً، عن التشابه والاختلاف بين الحضارتين.
لم أكتفِ بالأهوار، فأرق التاريخ يُعذّبني كثيراً، ويوغل في مضامينه، ويُفجّر عبر عدستي ملفاً آخر لا يقلّ خطورة عن الجفاف، ويُزيد عليه ضياع الهوية، ويتلخّص في معرض موثّق وشهادة للتاريخ عن سرقة الآثار العراقية. بعد نهب المتحف الوطني، مع دخول المحتلّ إلى العراق عام 2003، أقمت معرض "آثارنا المسروقة" وأهديت الصُور المؤطّرة إلى المتحف: 60 عملاً بقياس 100 بـ70 سم، لأشارك في إعادة بناء المتحف المنهوب.
غالبية أفلامك الوثائقية، كـ"الأهوار" و"أرواح النخيل"، وثيقةٌ عن حجم خراب بلدك، الناتج من الفوضى السياسية. هل كنت تقصد ذلك؟
كلّ المعارض والأفلام نتاج رغبة عارمة في الدفاع عن وطن سلبه السارق والطارئ. لم يقدّم أحدٌ حلولاً. آثر الجميع التسابق في التدمير الممنهج. ما أفعله محاولة لرفض الاستسلام أولاً، وإرجاع الحياة إلى البيئة بإرجاع المياه إليها ثانياً. هذه رسائلي المستمرّة.
في معارضك الفوتوغرافية وأفلامك الوثائقية، الموضوع نفسه.
النخيل والأهوار والآثار رموز لبلدي، والمدخل إليه. موت نخيله وتجفيف أهواره وسرقة آثاره، هذه كلّها تعني الحكم على العراق بالنهاية، تجفيفاً حدّ التصحّر والموت البيئي، وتمزيق هويته. لذا، المواضيع واحدة، لأنّها تؤدّي إلى الموت. بهذه المواضيع، أحاول استرجاعها عبر عدستي وأفلامي. "البيئة وأهوار العراق" معرض لي أقمته في إسبانيا. أردت أنْ أعمل جسراً يربط العراق بأوروبا. دمار بيئة الأهوار يؤدّي بلا شكّ إلى تغيير هجرة الطيور. هذه رسالة إلى أوروبا والعالم لتحريك الضمير العالمي، وللدفع إلى إحياء الأهوار.
هل ترى أنّ وضع العراق الآن يتطلّب نشاطاً كبيراً في مجال الأفلام الوثائقية؟
العراق يحتاج إلى أفلام وثائقية كثيرة، لا إلى أفلام يُهرول أصحابها إلى جوائز المهرجانات. علينا وضع العراق أولاً وأخيراً فوق المصالح الشخصية. أشدّ على أيدي بعض شباب السينما في صنع أفلام وثائقية مشغولة بالتفاصيل التي تهمّ البلد.
ما مشروعك المقبل كفيلمٍ وثائقي؟
للفن رسالة أراها بعدستي وأفلامي، وأجعلها قضية. لا أزال أجسّد هذا المبدأ بكلّ حذافيره. دعوتي مستمرّة إلى حياة الأهوار. دعوة إلى إعادة الحياة إلى آلاف العراقيين البسطاء، الذين اعتادوا العيش في المسطّحات المائية منذ الأزل. التاريخ يتحدّث، بتفاصيل موغلة في القدم، عن الأهوار ومياهها ونباتاتها وحيواناتها وكلّ شيء عنها. سومر منبع جذوري وأجدادي، ولن أتخلّى عنها وعن مياه نهري دجلة والفرات وتاريخها. من هذا المنطلق، لديّ مشروع في طور الاكتمال.