الجاهل والمتوحّد
رعد أطياف
نحن نعلم جيداً، وإن لا شعورياً، أن قوة المشاعر السامّة فتّاكة لدرجة أنها قد تصيب الذات بمقتل أو على الأقل تحدث فيها عوقًا مستديماً.
نحن لا نتحمّل ذواتنا وما تتعرّض له من هجوم عنيف من قبل المشاعر السامّة، فاخترعنا آداباً سجالية وخطاباً عدوانيّ ضد الآخرين، لكي لا ترتدّ علينا هذه المشاعر الفتّاكة وتفترسنا شرّ افتراس.
بهذه الطريقة نتجنّب “إبادة” مُحَقّقَة من قبل المشاعر ونحميها من التلف الوشيك.
بدلاً من افتراسنا لذواتنا، لغَلَبَة قوة الجهل، نوظّف عدوانية عنيفة تجاه الغير، ونحمّلهم مسؤولية معاناتنا.
وتبدو القضية كالتالي: حين تداهمنا المشاعر السامّة نصدّرها فوراً تجاه الغير.
وبهذه الطريقة نتوهم أننا نخفف من قوة الألم الذي لا يطاق والتعذيب المستمر من قوة المشاعر التي نبتلي بها.
لكن ما نفعله هو تغذية المشاعر من جديد! عبر مضاعفة العدوانية، ففي نهاية المطاف نحن من يحترق بهذا السعير، مضافاً إلى إيذائنا للآخرين.
أمّا المتوحدون الذين يبحثون عن معنىً لكينونتهم، هؤلاء الذين احتضنوا عزلتهم وتصالحوا معها، يواجهون مشاعرهم لا من خلال الهروب منها، ولا بتصديرها تجاه الآخرين، عبر افتعال تبريرات ومشاهد مسرحية تنطوي على مفارقات مضحكة مبكية، وإنما يقفون أمامها كما يقف مُرَوِّض الفيل؛ فمهما كان حجم الفيل ضخماً إلّا أنه ممكن الترويض.
المتوحدون لا يستوحشون الطريق لقلّة سالكيه، ولا ينظرون إلى الواقع برغباتهم النفسية، بل ينظرون إليه كما هو بمعزل عن هذه المشاعر
السامّة.
يباغتنا زرادشت نيتشة بتعاليم الفرح ويعلمنا كيف نجابه الألم “وكلما تعلّمنا كيف نفرح أكثر إلّا ونسينا أكثر كيف نؤلم وكيف نبتدع ضروباً من إيلام الآخرين”، ويقول كذلك “وإذا ما أساء إليك صديق فليكن قولك هكذا: لإنني أغفر لك ما فعلته معي، لكن كيف أغفر لك هذا الذي فعلته بنفسك؟
بكل الأحوال، ثمّة فارق جليّ بين الانغماس في الألم، على ما للتوصيف من سادية، وبين مواجهته حين يقبل محمِلًا مع كل الانقباضات الممكنة.
لكن فلنعترف أن الـ “حين يقبل” هذه لا تخلو من تلطيف شائع، ذلك أن الألم، على الحقيقة وليس المجاز، لا يأتي ولا يذهب، وإنما يمثل قوام الكائن الحي!، نسغ الحياة! ولأنّه ليس جزءًا عابراً أو عرضيًا، سيكون التحلّي بجسارة فهمه واختراقه فعل أصيل ولا علاقة له بأي منظورية شخصية.
نحن نخطأ كثيرًا بهذه العبارة”فلان يتحمّل الألم” كما لو أنه بغل للأحمال.
إن عبارة “مواجهة الألم” تنطوي على عملية تأويلية هائلة، بيد أن العبارة الأولى تكتفي بمطابقة الألم لنفسه أن يكون دوماً الشيء نفسه، العذاب، الانقباض، الهلوسة، الاصطكاك، الشرود..
وهو بهذه المنظورية البائسة يحرما من لذة تأويله: الانفتاح عليه لفهمه ومن ثمة ليمنحنا قواه الكامنة.
إن الكينونة تخفي نفسها على شكل ألم! بيد أن الكائن البشري يغرق في أوهام الذات وتغمره اللذة في نحو البقاء في هذا الحيّز الضيق.
الكائن البشري تسحره الريادة في فنون التخفّي والتورية، لكنّه ظل بليداً وكسولاً وضيّق الأفق في كيفية تفادي عواقب سمومه النفسية.
أنه لصُّ محترفُ باصطناع هذه الكروب النفسية، يمكنه أن يكون عملياً في كل شيء، لكنه مثالي وتجريدي ومداهن إزاء حماقاته الصبيانية! أنه يتآمر على نفسه، ويكابد شتّى فنون التبرير والرثاء، ليس لشيء سوى الحفاظ على هذا الكائنات المزيفة: الصور النفسية الموجعة، التشكّلات المعجونة بأصناف الهلوسة، السلسلة غير المترابطة من الهذيانات، طنين الأصوات التي تخترق حجاب السكينة اليقظة، الدفقات العاطفية المقبضة، الكائنات الوليدة لكل هذه التداعيات المذكورة، الدائرة المغلقة الإحكام التي تستدعي نفسها متى شاءت.
واستتباعاً لهذه القارّة الرمادية الكئيبة والموحشة تنبثق الأنماط المعتادة اللزجة! و تشكّل جوهر “وجوده” لاحقاً؛ فهو حين يتحول إلى كائن عنيد، ويفترسه الغباء العدواني، لا يدافع عن كينونته الحقة، وإنما يدافع ويستبسل عن هذه الدوامة المأساوية من المعاناة الاختيارية!