كرم الكرد في احتضان النازحين.. درس في الإنسانية
كريم رسول
في عالمٍ يعصفُ بالصراعات والحروب، يبقى القلب الإنساني هو النبراس الذي يضيء الطريق لمن ضاقت بهم الحياة واضطرتهم الظروف إلى الهجرة والنزوح. ولعل الشعب الكردي، لا سيما في إقليم كردستان العراق، قد جسّد أسمى معاني الأخوة والتضامن في احتضانه للنازحين واللاجئين، وخاصة الإخوة السوريين، ولن أقول العراقيين فهم يتحدثون عن ذلك في كل مقال ومقام. بينما تعاني بعض الدول العربية من صعوبات في التعامل مع قضية النزوح واللجوء، فإن كردستان العراق قد أثبتت للعالم أن الأخلاق الحقيقية تظل حاضرة حين تسود القيم الإنسانية.
منذ اندلاع الحرب السورية في عام 2011، فرَّ ملايين السوريين بحثاً عن الأمان والاستقرار. وبينما عانى الكثير منهم من التمييز والعنصرية في العديد من البلدان، كانت كردستان العراق استثناءً مشرفاً. فتح الأكراد وعموم الكرد أبوابهم واحتضنوا النازحين السوريين دون تمييز. بلغ عدد النازحين واللاجئين في إقليم كردستان العراق ما يقارب مليونَي شخص، منهم أكثر من 250 ألف لاجئ سوري، يشكلون نسبة كبيرة من السكان في مدن مثل أربيل ودهوك والسليمانية. وعلى الرغم من هذه الأعداد الكبيرة، لم يتعامل الأكراد معهم كغرباء بل كإخوة، حيث وفرت حكومة الإقليم أماكن إقامة مؤقتة، وسعت إلى إدماجهم في المجتمع الكردي.
"الضيف ضيف الله"، هكذا يقولون في كردستان، وهو ما يظهر بوضوح في سياسة الإقليم تجاه النازحين. لم تتوقف الأمور عند تقديم المأوى والطعام، بل جرى توفير التعليم والصحة أيضاً، في حين كانت المجتمعات المحلية تستقبل اللاجئين في المدارس والجامعات والمستشفيات، وتعكس هذه الروح التضامنية القيم الراسخة لدى الأكراد الذين يدركون تماماً معنى النزوح والتشرد، فهم قد عاشوا هم أنفسهم تجارب قاسية في العقود الماضية.
ورغم الوضع الاقتصادي الصعب في إقليم كردستان، وندرة الموارد أحياناً، إلا أن الكرم الكردي لم يتراجع. ويقول أحدهم: "من أكرم ساد"، وهو ما يظهر جلياً في الطريقة التي استقبل بها الأكراد السوريين، حيث لم يترددوا في تقاسم خبزهم ومنازلهم معهم. بل إنهم ذهبوا إلى أبعد من ذلك، حيث وفرت حكومة الإقليم مشاريع للعمل وأماكن للسكن، مما ساهم في استقرار اللاجئين السوريين. على سبيل المثال، بلغت نسبة العمال السوريين في بعض القطاعات في كردستان 20%، حيث وجد العديد من السوريين فرص عمل واستقروا مع عائلاتهم.
اليوم، وبعد أكثر من عقد من نزوح السوريين، نجد أن الدائرة قد دارت، وأصبح اللاجئون السوريون واللبنانيون أنفسهم نازحين مرة أخرى. فالأوضاع الاقتصادية المتدهورة والانفجارات السياسية في لبنان دفعت العديد من العائلات اللبنانية إلى مغادرة بلادهم بحثاً عن الأمان. وكما استقبل الأكراد السوريين سابقاً، يواصلون اليوم فتح أبوابهم لكل من يحتاج إلى ملاذ آمن.
في هذا السياق، وصدق من قال إن "الريح تجرف التراب، لكن الجبال تبقى ثابتة"، فهذه الجبال الراسخة، التي ترمز إلى قوة وصمود الشعب الكردي، تظهر قدرتهم على الوقوف بثبات أمام التحديات واستقبال من يحتاج إلى المساعدة، بغض النظر عن قوميته أو دينه.
قصة الكرم الكردي واحتضان النازحين هي قصة تتجاوز حدود الجغرافيا والسياسة. إنها قصة إنسانية بامتياز، تعكس كيف يمكن للقيم الأخلاقية والإنسانية أن تبقى صامدة في وجه أصعب الظروف. لقد علّم الأكراد العالم أن "الجار للجار"، وأنه في زمن الحروب والنزوح، ليس هناك شيء أهم من أن نكون يداً واحدة. وفي ظل هذه الأزمات العالمية، يبقى شعب كردستان العراق مثالاً يُحتذى به في التضامن والإخاء.
وبالفعل "الخير لا يُنسى"، فإن كرم الأكراد ومواقفهم النبيلة لن تُنسى، وسيظلون نموذجاً مشرقاً للأخلاق والإنسانية التي يتطلع إليها العالم في زمن الصراعات.