"أنهار النفايات" تسقي العراقيين هلعا وأمراضا
الكائنات النهرية هي الضحية الأولى للمخلفات الطبية في العراق (أ ف ب)
لم يكن يوماً سهلاً في حياة صادق محمد (44 سنة) حين حاول إرضاء صاحب إحدى الشركات الذي أمره بتجميع عدد كاف من النفايات البلاستيكية أو طرده، فاقترح عليه أحد الأصدقاء أن يتجه نحو حافة نهر دجلة المحاذي لمدينة الطب، وهي المؤسسة الصحية الكبرى في العراق، ليحصل على كميات كبيرة منها لم تسلك طريقها إلى النهر.
بعد رؤيته المكان أدرك صادق أنه سيغامر مغامرة خطرة، إذ لم يكن قد اتخذ احتياطاته بصورة كافية، ولم يكن يعتقد أنه سيجد مواد طبية جارحة ومميتة قرب نهر يمد البلد بأكمله بالمياه. يقول "شعرت بالخطر وارتبكت، حاولت بحذر رفع البلاستيك، بعضه كان ملوثاً بالدماء، وجُرحت في قدمي بعد أن اخترقها مشرط أصاب جسدي بالتسمم وبُترت القدم".
لا يريد صادق اليوم سوى أن تشعر به وزارة العمل وتمنحه راتب إعانة. ويتابع "يشعر صديقي بالندم منذ اقترح عليَّ النبش في مكان خطر. أعتقد أننا جميعاً نعيش الخطر نفسه منذ أعوام من دون أن ندرك ذلك، لا أعلم كيف تتعامل معنا حتى المستشفيات المنوط بها إنقاذنا وأطفالنا حين تلقي نفاياتها في النهر؟".
أين تذهب المخلفات؟
بصورة متكررة تطلق وزارة البيئة تحذيرات لجميع المستشفيات، وتحديداً مدينة الطب، من رمي المخلفات الطبية في نهر دجلة مباشرة، واستخدام الطرق الآمنة والمحارق، وبالطبع فإن إدارة المشفى دائماً ما توضح التزامها المعايير الصحية السليمة، لكن مشهد النهر وهو يستقبل النفايات التي تبدأ بتحويل لونه تدرجاً إلى بقعة كبيرة ضخمة من السواد تتسع شيئاً فشيئاً وتصبغ مياهه الجارية ببقايا المرضى والأموات لا يحمل سوى جواب واحد هو أن العراقيين يتجرعون الموت.
حملات لا تتوقف لرفع مواد بلاستيكية بعضها ملوثة بالدماء على ضفاف نهر دجلة (أ ف ب)الحقن والأدوية وزجاجاتها وقطع القماش المغطاة بالدماء وكل أنواع الأنسجة البشرية والدم وسوائل الجسم التي يجب التخلص منها والأدوات الحادة والأجنة وغيرها تُجمع مباشرة وتُرمى في النهر الذي يقال إنهم تغنوا كثيراً به.
بأخذ عينات من مياه النهر المحاذية لمدينة الطب لتحليلها، وجد المتخصص البيئي سالم محمد، أن عنصر الرصاص أكثر من الحد المسموح به بمعدل ضعفين، وكذلك عنصر النيكل، إضافة إلى الزئبق والكادميوم وهي من العناصر الشديدة الخطر على الصحة العامة. كما أن إتلافها بالحرق ليس كافياً، وقد يتعدى التلوث والتسمم المياه إلى الهواء كذلك.
حقن طبية في السمك
قرر مازن أحمد (33 سنة) تناول السمك المسكوف (المشوي) مع أصدقائه بأحد المطاعم المطلة على النهر والمشتهرة بشواء الأسماك الطازجة من دجلة مباشرة، كان متحمساً للغاية وهو يرى السمكة بوزن خمسة كيلوغرامات تقدم إليه، لكن فرحته لم تكتمل حين انحشر شيء ما في حلقه. يقول "أخذوني إلى المستشفى، وكان ثمة تدخل جراحي فوري، وقال الأطباء إنها عظمة سمكة ستُستخرج، ثم تبين في ما بعد أنها (نيدل) لحقنة طبية كانت مغروزة في جسد السمكة".
يقول مازن إنه واحد من آلاف قد يمرون بالتجربة نفسها، وقبلهم الكائنات النهرية التي هي الضحية الأولى للمخلفات الطبية. وهو لم يقترب مرة أخرى من السمك لأنه لا يستطيع نسيان هذه التجربة المؤلمة، ويتساءل "ما الذي يصلنا مع المياه، كيف نعيش؟".
تقول الأمم المتحدة إن ما يصل إلى الشعب العراقي من المياه يأتي مباشرة من النهر، ولا تجري فلترتها أو تنقيتها على رغم وجود إدارة لشبكة المياه من خلال 138 محطة هيدروليجية موزعة في مواقع منتخبة على الأنهر الرئيسة في عموم العراق.
في بغداد وحدها هناك 18 محطة للصرف تُلقي مياهها الثقيلة من دون معالجة في مجرى النهر، وتتراوح كمياتها ما بين 500 ومليون متر مكعب من مياه الصرف الصحي يومياً. وتتخلص محطة الكاظمية للمجاري في بغداد من مياه المخلفات في النهر، وثمة محطة "ماء الكرامة" التي تأخذ المياه من النهر مباشرة فتضخها إلى الأحياء السكنية.
30 في المئة من سكان العراق فقط قادرون على الوصول إلى نظام الصرف الصحي (أ ف ب)أحدث تصريحات الدائرة الفنية في وزارة البيئة، تبين أن نسبة تلوث الأنهر في العراق بلغت 90 في المئة بسبب تصريف مياه الصرف الصحي والمخلفات الطبية فيها من دون معالجة. ويقول الناطق باسم وزارة الموارد المائية علي راضي إن "سبب تلوث المياه هو رمي المخلفات الصناعية والطبية وحتى النفطية في الأنهر وعدم تصفية المياه العائدة إليها من قبل دوائر البلديات.
ويوضح المختص البيئي سالم لـ"اندبندنت عربية"، أن "كل ما يفعله الناطقون الرسميون هو التصريحات، وما من تحرك جدي وحقيقي، فيما يموت كل شيء داخل النهر، إذ ترمي مدينة الطب التي تسع 528 سريراً وحدها يومياً مخلفات أكثر من 1000 مريض في دجلة".
وعلى رغم أن وزارة البيئة تعمل من خلال القانون رقم 27 لعام 2009، الذي يخولها إنذار الجهات المخالفة ثم التوصية بغلق تلك الجهات إذا لم تستجب للإنذارات، فإنه لا يطبق.
معالجة منتهية الصلاحية
لم يعد الصيادون قادرين على الصيد بصورة جيدة. جميع مناطق بغداد المطلة على النهر تجعلهم يفكرون ألف مرة قبل خوض تلك التجربة، ولا يريدون صيد أسماك لن يشتريها أحد، يقول عدد ممن يعيشون قرب جسر "الدورة" إن نهر دجلة تحول إلى بقعة ملوثة بمخلفات محطات الكهرباء ومصافي النفط، ويشكون من أن السمك مليء برائحة النفط ولا يستطيع أحد الاقتراب منه.
في الوقت الحالي، لم تُحدد أية آلية لمعالجة النفايات الطبية السائلة كي تُتبع من قبل المستشفيات. يوضح المتخصص في البيئة والمناخ عباس المرياني، أن هذا الأمر يجعل المشافي تستخدم شبكات المجاري العامة أو الأنهار للتخلص منها أو الاعتماد على المخازن الحوضية (السبتتنك) ومن ثم سحبها بواسطة العربات الحوضية التي تصرفها في الأراضي الزراعية أو في المجاري المائية أو تبقيها مكشوفة في الأراضي القريبة من المرافق الطبية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تسبب النفايات الطبية عدداً من الأخطار، منها الإصابات والجروح والأمراض التي تنتج بسبب تعرض العاملين على جمعها للأدوات الحادة مثل المشارط والشفرات والحقن والقطن والشاش الملوث، مما يسبب الالتهابات والإصابة بالأمراض الخطرة مثل التهاب الكبد الفيروسي ونقص المناعة (الأيدز) وأمراض أخرى كثيرة.
ويوضح المرياني لـ"اندبندنت عربية"، أن أحدث تقرير للرقابة المالية العراقية الاتحادية يبين أن نحو 120 مركزاً طبياً في العراق يتخلص من مخلفاته السائلة عبر الأنهار، ونحو 5 ملايين متر مكعب من المخلفات ترمى يومياً في عموم البلاد.
أمراض لا تنتهي
تحوي النفايات الطبية غالباً مواد كيماوية خطرة مثل المواد المشعة والسامة. وعند التعامل الخاطئ معها تتحول هذه المواد إلى غازات فتاكة تؤثر أولاً في الكائنات النهرية، ثم تنتقل إلى الإنسان الذي يتعرض بصورة مباشرة للمياه الملوثة. وتشكل بعض النفايات الطبية ناقلاً رئيساً للعدوى لما تحويه من كائنات مجهرية وفيروسات خطرة، بحسب المرياني.
أبرز الأمراض الناتجة من سوء التعامل مع النفايات الطبية الإصابة بالبكتيريا المعوية والسالمونيلا والكوليرا وبكتيريا السيلان وبكتيريا التهاب السحايا. ويتزايد خطر هذه المخلفات بسبب إمكانية تسببها بأمراض أكثر فتكاً نتيجة التعرض المباشر لها عبر الاستنشاق أو اللمس، أو من خلال نواقل الأمراض كالحشرات والحيوانات، بما فيها النهرية.
مبادرات يطلقها ناشطون عراقيون لإنقاذ مياه النهر من الملوثات (أ ف ب)أحد العاملين في وزارة الصحة، فضل عدم الكشف عن هويته، يقول لـ"اندبندنت عربية"، إن "مدينة الطب وحدها مسؤولة عن جزء كبير من المخلفات الطبية غير المعالجة بصورة صحيحة. ما يحدث هو أن المستشفى يعالج المرضى داخله، لكنه يتسبب في إصابتهم بالأمراض خارجه". مؤكداً أن المؤسسات الحكومية نفسها تقف خلف جزء من هذا التلوث البيئي.
يقول المتخصص البيئي سالم محمد لـ"اندبندنت عربية"، إن ما يقارب 30 في المئة من سكان العراق قادرون على الوصول إلى نظام الصرف الصحي، ومن بين المحافظات العراقية الـ 18 هناك 10 فقط لديها مرافق لمعالجة مياه الصرف الصحي. ويتركز الوصول إلى أنظمة الصرف الصحي بالمناطق الحضرية حيث تتوفر مرافق المعالجة، مما يعني أن معظم المناطق الريفية غير مرتبطة بأنظمة الصرف الصحي، لذا تلجأ إلى وسائل بديلة لتصريف مياه الصرف، مثل الحفر الامتصاصية تحت الأرض أو تصريف النفايات غير المعالجة في القنوات والأنهار.
ناشطون يساعدون النهر
تعتبر عملية تنظيف النهر أمراً نادراً يحصل بالصدفة أو من طريق حملات من قبل أمانة بغداد كان آخرها عام 2018، كما يوضح الناشط البيئي مشتاق الصكر، وقد قرر شباب العاصمة ومتطوعوها أن يباشروا حملات كبيرة لتنظيف النهر وجوانبه من تلك المخلفات دورياً، لكنه بالطبع أمر موقت ولا يمكن الاعتماد عليه ما لم تضع الدولة حلاً جذرياً للأزمة.
يقول الصكر إن "آلافاً من المتطوعين كانوا يقضون ساعات طويلة من أيامهم في تنظيف مجارف النهر ورفع أطنان لا تُعد من المخلفات الطبية والصناعية التي لا يمكن تخيلها، كنا نعتقد أن كبرى الكوارث التي ستصادفنا هي المخلفات المنزلية، لكن الصدمة كانت في وجود أدوية منتهية الصلاحية وثياب مليئة بالدماء وبقايا مستشفيات قادرة فعلياً على قتل المواطنين إن بقيت على الأرض أو اتجهت إلى النهر".