"الجدار" مسرحية صادمة تخوض عالم العلاقات الشائكة
من اجواء مسرحية "الجدار" العراقية (خدمة الفرقة)
حين مغادرتك مسرح الرشيد في العاصمة بغداد بعد مشاهدة عرض" الجدار" للمخرج العراقي سنان العزاوي، إنتاج دائرة السينما والمسرح، لو طلبوا رأيك في العرض لكانت إجابتك: لست متعاطفاً معه، لقد أرهقنا على مدى ساعتين ونصف الساعة، بحكاياته الغريبة والمزعجة. هكذا كان انطباعي، الأول والسريع، عن عرض كل ما فيه شاذ وغريب ويخلخل السلام النفسي الذي نتوهم وجوده داخلنا، حماية لأعصابنا من التآكل.
على أن ترك مسافة بيننا وبين العرض، نستعيد خلالها الأحداث، ونتأملها على مهل وبعيداً من فكرة التعاطف من عدمها، ربما فتح أمامنا طرقا تجعلنا ننفذ إلى ما وراء الحكايات، لنعيد تفكيكها، ونحاول فهم أسبابها التي جعلتها تأتي على ذلك النحو، لنكون كمن يقف أمام المرآة يتأمل ذاته ملياً.
هو عرض صادم لا شك، حكاياته كلها مزعجة، بخاصة لأولئك الذين يفضلون أن تظل "الفضائح" نائمة، ويلعنون من يحاول إيقاظها، ففي إيقاظها تعرية لذوات هشة، يمكن أن تكسرها نسمة هواء تأتيها على نحو مباغت، ومن حيث لا تدري.
قضية العرض
عنوان العرض استدعى قصة "الجدار" لجان بول سارتر، وهي قصة قصيرة، ترجمتها نجلاء نادي، وصدرت في كتاب عن المجلس الأعلى للثقافة بمصر، ضم أربع قصص أخرى للكاتب، والقصة تتناول حكاية مجموعة من الثوار الإسبان في عهد الديكتاتور فرانكو في انتظار تنفيذ حكم الإعدام ولا علاقة لها بنص العرض، والجدار الذي عناه سارتر هو ذلك الحائط الذي يقف أمامه السجناء في مواجهة الجنود الذين سيطلقون عليهم الرصاص.
الجدار في العرض يمكن تأويله بأنه المنفى أو القبر أو السجن، هو في كل الأحوال مكان افتراضي لا يمكن الجزم بطبيعته. أما من يقبعون خلفه فهم مجموعة من البشر، معظمهم من النساء اللاتي لكل منهن حكايتها المرعبة، فتاة تعرضت للاغتصاب من والدها وأنجبت منه، وأخرى دفعها شقيقها إلى الإدمان وأقام معها علاقة جنسية، وثالثة أجبرها زوجها على الدخول في لعبة تبادل الزوجات، ورابعة استغلها زوجها للقيام بأعمال منافية للآداب، وخامسة استدرجها رسام إلى مرسمه وشوه وجهها عندما رفضت الاستجابة له فقامت بقتله. وسادسة وسابعة وثامنة، كلها علاقات تمضي على هذا النحو الغريب والشائه، إذ لم يترك كاتب النص حيدر جمعة علاقة شاذة إلا وجاء بها، العلاقة الوحيدة التي لم يتعرض لها هي علاقة الابن بأمه.
حتى الرجل الذي يعمل خادماً أو مساعداً في هذا المكان، هو شخص مخنث متشبه بالنساء في ملابسهن وسلوكياتهن (أدى دوره ببراعة وجرأة يحيى إبراهيم)، وإن كان برر ذلك بأنه تم اغتصابه صغيراً وربما تكون حكايته إحدى هفوات العرض، فتلك النوعية التي لا يكون سلوكها نتيجة تفوق هرموناتها الأنثوية على هرموناتها الذكورية، لا تبدو على هذا النحو من التهتك وهو ما كان يتطلب، في ظني، مراجعته علمياً من قبل الكاتب.
صدمات أخرى
لم تأت الصدمة من حكايات شخصيات العرض فحسب بل جاءت أيضاً من طريقة المسرحة التي لجأ إليها العزاوي في تشظيها واختلاط عناصرها سواء من حيث الأداء التمثيلي أو تداخل الحكي بالغناء، بالأداء الحركي أو تبادل الأدوار بين الشخصيات أو صياغة الفضاء ديكوراً وإضاءة.
يبدأ العرض بالمخرج أمام ميكروفون يمين المسرح يتلو بعض العبارات التي تشير إلى دول العالم الأول ودورها في قهر ومسخ هوية دول العالم الثالث، وسعيها إلى السيطرة عليها، وغيرها من العبارات السياسية المباشرة، ثم لا يلبس أن يختفي خطابه خلف غناء أوبرالي حاد من إحدى المغنيات، هذا الغناء الذي ستواصل صاحبته بعد ذلك سحق أي صوت يشي بتمرد أو اعتراض، ثم تتوالى الأحداث بعد ذلك لنعرف حكاية كل من خلف الجدار، في محاولة للبحث عن رابط ما، بين افتتاحية العرض، ومحتواه التالي، وربما أكد ذلك الرابط ما تلاه الممثلون نهاية العرض: هل نحن أحياء أم موتى، هل نحن بشر أم حيوانات؟
لقد جاء المشهد الافتتاحي الذي أداه العزاوي بمثابة العتبة التي ترتبط بالحدث وتمهد له، أراده مباشراً، ربما ليحدد بوصلة المشاهد في تعاطيه مع ما يطرحه من قضايا، وإن ظل السؤال قائماً: هل كل هذه الانتهاكات الذكورية هي طبيعة متأصلة فينا، أم إنها نتيجة لاستلابنا من دول العالم الأول، وسعيها إلى مسخ، ليس هويتنا الحضارية فحسب، بل مسخ طبيعتنا التي فطرنا عليها، وتحويلنا إلى نماذج شائهة وشاذة وغير سوية.
سؤال آخر عن الرجل هنا، هل هو السلطة التي تنتهكنا، رجالاً ونساء، أم إنه الآخر الغربي (دول العالم الأول) الذي يتبنى أفكاراً تؤدي بنا إلى ذلك الحضيض، وسط غياب رائد ثقة يهدينا إلى الطريق القويم، إذ جاء ممثل الدين، مردداً عبارات مكررة عن الحلال والحرام، مثل الببغاء (لعبت دوره إحدى الممثلات) ثم نكتشف أنها تتبادل دورها مع راقصة مبتذلة، في نقض واضح للخطاب الديني؟ الإجابات كلها ربما تكون صالحة، وهذه واحدة من حسنات العرض، تسهم في تعدد التأويلات، وطرح عدد الأسئلة.
هكذا يمضي خطاب العرض بين الجمالي والسياسي، مغلباً الجمالي، ومعتنياً بالصورة، التي تتشكل عبر الضوء والموسيقى والحركة والديكور الذي جاء عبارة عن ثلاث حوائط، يمين ويسار وعمق المسرح، تتخللها مجموعة من الأبواب والفجوات، في تكوين أقرب إلى الرمزية، يلمح ولا يصرح، أي لا يشير إلى مكان بعينه، متسقاً مع منهجية العرض المجازية التي سار عليها، فضلاً عن استخدامه حائط العمق لعرض بعض مشاهد الفيديو التي ترتبط عضوياً بمشاهد التمثيل المجسدة أمامنا.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ثمة سؤال يتعلق بمحتوى العرض، لا بد أن يلح على مشاهده، ألا وهو: هل تمثل الحالات التي قدمها العرض ظاهرة في مجتمعنا، حتى تستدعي كل هذا الإفراط في تقديمها أم إنها، وفي كل المجتمعات، تمثل استثناء؟
يبدو السؤال وجيهاً، كما أظن، نعم مثل هذه الحالات موجودة بيننا، لكنها ليست بالانتشار الذي صوره العرض، لكن ربما كانت المبالغة هنا مقصودة، والإمعان في التشويه مقصود، بخاصة أننا أمام ما يمكن اعتباره "مجازاً" فالفن لا ينقل صورة طبق الأصل من الواقع، بل يقدم رؤيته الجمالية لهذا الواقع، حتى عبر جماليات القبح، تاركاً تأويل ما يجري للمتلقي، بخاصة أن الانتهاك طال الرجل أيضاً، ما يوسع من زاوية النظر إلى الأمر، ولا يحصرها في فكرة قهر الأنثى وانتهاكها، التي أشبعتنا بها العروض النسوية.
عنصر الصورة
أياً كان موضوع العرض، وبعيداً من حكاية الظاهرة والاستثناء، وبعيداً كذلك من تعاطفنا مع الشخصيات من عدمه، فإن الفيصل يظل في كيفية تقديم ذلك كله في صياغة مسرحية متماسكة ومنضبطة، يلعب فيها عنصر الصورة دوراً بارزاً، وهو ما تحقق بدرجة طيبة، وأفصح عن إمكانات مخرج متمرد ومغامر، عن معرفة ودراية، وسينوغراف (علي السوداني) يمتلك نفس الحس المتمرد والمغامر، وإن شاب العرض بعض الإطالة والتكرار وبعض السكون الذي يشذ عن إيقاعه السريع والمتدفق.
العرض حصل على جائزة أفضل عرض متكامل في المسابقة الدولية لمهرجان بغداد الدولي للمسرح في نسخته الخامسة التي انقضت منذ أيام.