تركيا وأكراد سوريا: حرب أم صدام؟
اسم الأكراد يلهم عدداً من أعضاء الكونغرس وشريحة كبيرة من الجمهور على اليمين واليسار في أميركا (أ ف ب)
يركز المراقبون في الغرب على الصراع بين الحكومة التركية وأكراد سوريا في شمال شرقي البلاد، في منطقة يصفها الأكراد بـ"روجافا". والصراع التركي - الكردي في سوريا هو أعمق من "غزوة هيئة تحرير الشام" للمدن السورية والعاصمة دمشق، فالصدام يعود لقيام حركة قومية كردية ماركسية ثورية خلال الحرب الباردة بدأت داخل تركيا العلمانية الجمهورية، وباتت صراعاً بين أكراد اليسار والتيار الكمالي على عقود، وتخلله أعمال عنف، بخاصة في شرق البلاد بين "الثوريين الأكراد" والدولة التركية. وطرح القوميون - الماركسيون بقيادة تنظيم "حزب العمال الكردستاني" الذي كان يترأسه عبدالله أوجلان انفصالاً كردياً عن تركيا وانفصال أكراد سوريا والعراق، وربما إيران، عن دولهم.
انتقلت الحركة إلى سوريا ووجدت داعمين في شمال البلاد بين أفراد المجتمع، ففي البداية قدم لها نظام البعث بقيادة حافظ الأسد الدعم في سياق الحرب الباردة. كانت المعادلة طبيعية، إذ كانت تركيا عضواً في الناتو، بينما كان نظام الأسد حليفاً للاتحاد السوفياتي. ومع ذلك حذرت الحكومة التركية العلمانية نظام الأسد في عام 1999 من أن هجوماً شاملاً على سوريا كان وشيكاً إذا بقي حزب العمال الكردستاني وأوجلان في سوريا ولبنان. انسحب التنظيم من البلدين، وقبض على زعيمه في أفريقيا ونقل إلى تركيا، لكن تأثير الحزب ظل موجوداً داخل المجتمعات الكردية حتى اندلاع الحرب الأهلية السورية في عام 2011.
بصورة طبيعية، نظم السكان الأكراد في شمال شرقي سوريا قوات محلية لحماية أراضيهم وسكانهم من الجماعات المتطرفة ونظام الأسد، وفي عام 2011 شكلوا وحدات حماية الشعب. في جميع أنحاء سوريا تشكلت جيوب محلية حول النظام، بمن في ذلك المتطرفون العرب والمعارضون للبعث، والقبائل في الجنوب، ووحدات محلية درزية.
وفي عام 2012 أطلق فصيل من القاعدة جماعة إرهابية باسم "جبهة النصرة"، التي أصبحت بعد أعوام تعرف بحركة تحرير الشام (أتش تي أس). اتهمت السلطات التركية وحدات حماية الشعب بأنها تمويه لعودة حزب العمال الكردستاني، لكن أيديولوجية وحدات حماية الشعب على رغم اشتراكها في الفكر القومي مع حزب العمال الكردستاني الماركسي القديم، ركزت على حماية منطقة حرة تدعى "روجافا" داخل سوريا من دون ادعاءات تتجاوز حدود هذا البلد.
منذ ذلك الحين دعمت حكومة حزب العدالة والتنمية ميليشيات عربية سنية ذات أيديولوجية متطرفة لدفع وحدات حماية الشعب إلى التراجع، وفي عام 2014 سيطر تنظيم "داعش" على أجزاء كبيرة من العراق، بخاصة المناطق السنية، وشن هجمات على منطقة إقليم كردستان العراق في شمال البلاد، وسيطر على جزء كبير من سوريا دافعاً القوات الكردية شمالاً. وفي العراق تعرضت مجتمعات الأيزيديين والمسيحيين لمجازر على أطراف كردستان العراق وقتل عدد من الأكراد، كما تعرض الأكراد والأقليات الأخرى في شمال شرقي سوريا لهجمات شديدة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
اعتباراً من عام 2015 جرى تشكيل تحالف بقيادة الولايات المتحدة لتدمير "داعش"، شمل حينها البشمركة في شمال العراق ووحدات حماية الشعب (واي بي جي) في سوريا، لكن الأخيرة تضمنت مسلحين عرباً سنة وسرياناً مسيحيين، إذ شكلوا تحالفاً محلياً جديداً يدعى قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، وجرى تدريب وحماية هذه القوات من التحالف الأميركي وأصبحت قوة رئيسة على الأرض لمواجهة المتطرفين.
رفض حزب العدالة والتنمية الحاكم في أنقرة إدراج قوات سوريا الديمقراطية في التحالف، متهماً بأن هذه القوات بقيادة حزب العمال الكردستاني. في عام 2018 ضغط الرئيس رجب طيب أردوغان على الرئيس دونالد ترمب لسحب قوات سوريا الديمقراطية والسكان من المنطقة الحدودية بين سوريا وتركيا، ووافق ترمب على الصفقة لكنه سمح في المقابل للقوات الأميركية بتعزيز "قسد".
في عهد إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن، بقي الوضع كما هو حتى السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023، إذ أدى اندلاع الحروب الإسرائيلية مع "حزب الله" و"حماس" والميليشيات الإيرانية إلى تغيير ميزان القوى داخل سوريا.
وفي ديسمبر (كانون الأول) 2024، بعد أن دمرت إسرائيل البنية التحتية لـ"حزب الله" وقضت على قيادته وأضعفت الحرس الثوري الإيراني (الباسدران) داخل سوريا و"حماس" في غزة، شن مسلحو هيئة تحرير الشام المتمركزين في إدلب والمدعومين من تركيا هجوماً خاطفاً على حلب، واستولوا على المدينة بسرعة، ثم تقدموا إلى حماة ثم حمص، وبسرعة خاطفة وصلوا إلى دمشق وسيطروا عليها. غادر الأسد البلاد، وانهار الجيش السوري.
أعلنت هيئة تحرير الشام نفسها نظاماً مسيطراً، وسرعان ما وجدت نفسها في مواجهة مع قوتين في الأقل داخل سوريا. في الجنوب رفضت القوات الدرزية في السويداء أن تحل نفسها وتنضم إلى النظام الجديد، لكن الأهم من ذلك في الشمال الشرقي أخبرت قوات سوريا الديمقراطية (قسد) هيئة تحرير الشام بأنها لن تحل نفسها، وستظل مستقلة.
في الوقت نفسه تقدمت الميليشيات المتطرفة الثانية في الشمال، الجيش الوطني السوري (أس أن أيه)، بأوامر من أنقرة نحو منبج وقوات سوريا الديمقراطية، لكن الأخيرة أوقفتها. بينما تنشغل هيئة تحرير الشام بتعزيز سيطرتها في العاصمة ومحاولة تشكيل حكومة فعالة، فإنها ستتعامل مع قوات سوريا الديمقراطية لاحقاً، إضافة إلى ذلك، لا يمكنها الاشتباك مع القوات الأميركية في الشمال الشرقي.
يواصل الجيش الوطني السوري، بأوامر مباشرة من أنقرة، الاشتباك عسكرياً مع قوات سوريا الديمقراطية. ولكن من دون دعم جوي ستجد الميليشيات المحلية المتطرفة صعوبة في هزيمة قوات سوريا الديمقراطية، كما تخاطر بالتعرض لضربات من القوات الجوية الأميركية. ومن هنا يبقى السؤال الرئيس، هو ما إذا كانت حكومة حزب العدالة والتنمية ستأمر الجيش التركي والقوات الجوية بالتدخل بصورة كاملة ضد قوات سوريا الديمقراطية.
تركيا وقوات سوريا الديمقراطية تتصادمان عبر ميليشيات مثل الجيش الوطني السوري، ولكن إذا صدرت أوامر للقوات التركية بغزو "روجافا" بصورة مباشرة، فمن المؤكد أنها ستتمكن من السيطرة على أراض، ولكن هناك عواقب محتملة. أحد هذه العواقب هو رد فعل القوات الأميركية، بخاصة في ظل إدارة الرئيس المنتخب دونالد ترمب، إذ لا يمكن تقديم تنازلات إقليمية كبيرة في شمال سوريا. إضافة إلى ذلك، فإن المجال الجوي فوق "روجافا" يخضع لسيطرة أميركية، بصورة رئيسة ضد "داعش". فكيف ستعمل الطائرات الحربية الأميركية والتركية في تلك المنطقة، واحدة تهاجم والأخرى تدافع عن المجموعة نفسها على الأرض؟
وإذا شن الجيش التركي وميليشياته المتطرفة هجوما ضد الأكراد والمسيحيين والقبائل العربية، هل ستقف القوات الأميركية مع شركائها على الأرض أم لا؟ كل هذا يعتمد على الرأي العام داخل الولايات المتحدة وداخل تركيا.
في أميركا، اسم الأكراد يلهم عدداً من أعضاء الكونغرس وشريحة كبيرة من الجمهور على اليمين واليسار. غالبية من الحزبين ستضغط على الإدارة لوقف مثل هذا الصراع، وعلى مستوى آخر فإن حرباً عسكرية مباشرة بين قوات سوريا الديمقراطية والقوات التركية قد يكون لها بعض التأثيرات داخل تركيا التي ستؤدي إلى عواقب مالية واقتصادية على الاقتصاد التركي، أضف إلى ذلك الهشاشة الإقليمية مع التوترات مع اليونان وقبرص، وفي النهاية مع الاتحاد الأوروبي.
يمكن وصف الوضع الحالي بين تركيا وقوات سوريا الديمقراطية بالمواجهة، لكن هل يمكن أن يتطور إلى حرب شاملة؟ سيحتاج ذلك إلى قرار حرب في أنقرة وتشجيع أميركي، وقد ينتهي بجراح مفتوحة، لكن الخيارات الأخرى ليست مستحيلة.
وفقاً لمصدر، فإن التزام قوات سوريا الديمقراطية الابتعاد من حزب العمال الكردستاني قد يكون حجر الأساس لحل ممكن. خيار آخر هو إجراء مفاوضات مشتركة تشمل جميع الأكراد في المنطقة، بما في ذلك إقليم كردستان العراق و"روجافا"، في مؤتمر يعقد في أربيل وقد يحظى بدعم أميركي.
والخيار الأخير المقبول هو الحرب المباشرة، التي لن يحقق فيها أحد نصراً حقيقياً في ظل الظروف الحالية.