الدب الروسي ليس في سبات دائم

جمال محمد تقي
على قاعدة خذ الحكمة من أفواه المجربين، نحتكم لحكمة صانع الوحدة الألمانية الأولى، ورجل الدولة والسياسي المخضرم، على أصول وفنون لعبة الأمم، بطرازها المعتق، وثوابتها المهندسة على أعمدة الطوبوغرافيا والديموغرافيا والإنثوغرافيا، وعلى كل فروع الجغرافيا بما فيها السياسية، يقول بسمارك: «لا تتوقع أنه بمجرد الاستفادة من ضعف روسيا، ستحصل على أرباح إلى الأبد، الروس يأتون دائما لاستعادة أموالهم، وعندما يأتون، لا تعتمد على الاتفاقات اليسوعية التي تتوهم أنها تبرر لك، أنها لا تساوي قيمة ذلك الورق الذي كتبت عليه، لذلك مع الروس يتعين، إما اللعب بشكل عادل، أو عدم اللعب على الإطلاق». وقال أيضا: «إن الروس يستعدون طويلا لكنهم ينطلقون بسرعة»، وعن ألمانيا وروسيا تحديدا قال: «الحرب بين ألمانيا وروسيا غباء عظيم، ولهذا السبب تحديدا ستحدث بالتأكيد»، وفعلا حدثت عندما هاجمت جيوش أدولف هتلر ومحوره، روسيا عام 1941، بأكبر عملية غزو في التاريخ الحربي، تحت مسمى عملية بربروسا، التي اشترك فيها أكثر من ثلاثة ملايين ونصف مليون جندي، والنتيجة معروفة.
من كارل الثاني عشر مرورا بنابليون إلى هتلر
اجتاح ملك السويد المتهور كارل الثاني عشر، عمق أراضي الإمبراطورية الروسية عام 1700، بعد أن نجح في بسط نفوذه على فنلندا وأقاليم البلطيق، بهدف السيطرة على كل الأراضي المطلة على حوض بحر البلطيق وحرمان الروس من أي إطلالة ولو من بعيد، لكنه انكسر في معركة بولتوفا في أوكرانيا عام 1709 أمام جيش القيصر الروسي بطرس الأكبر، وفرّ بمن تبقى من جيشه المهزوم إلى أراضي الدولة العثمانية طلبا للحماية. أما نابليون بونابرت إمبراطور فرنسا وأوروبا وفارس برِّها الأوحد، فبعد عجزه عن كسر بريطانيا بحرا، لجأ إلى سياسة عزلها عن البر الأوروبي ومقاطعتها تجاريا، وعندما وجد أن روسيا لا تتجاوب مع حصاره التجاري لبريطانيا، قاد حملة عسكرية كبرى عام 1812 بجيش جرار بلغ تعداده نحو 680 ألف جندي بينهم 300 ألف جندي فرنسي، هدفه تأديب قيصر روسيا الكسندر الأول، وعرضيا تحرير بولندا من الروس وضمها لامبراطوريته، بعد ضمان طاعة الروس له، وفعلا توغل نابليون في العمق الروسي حتى دخل موسكو، على أمل ملاقاة الجيش الروسي في معركة حاسمة، لكن الروس حرموه من الحسم، وأضعفوه درجة الاستنزاف والإعياء فرجع أدراجه خائبا برفقة 27 ألفا من بقية جيشه المنكسر. مقولة تشرشل المأثورة «في السياسة ليس هناك عدو دائم أو صديق دائم، هناك مصالح دائمة»، تنطبق كليا على حالة أوروبا قبل الحرب العالمية الأولى، فتعارض المصالح بين القوى الأوروبية الكبرى وقتها، هو السبب الأول للتغيير الذي حصل لخرائط التحالفات الأوروبية، ومهد لاندلاع الحرب، لقد انسحبت روسيا القيصرية من تحالف الأباطرة الثلاثة (روسيا وألمانيا وامبراطورية النمسا والمجر) 1878 ثم دخولها لاحقا بحلف مع الفرنسيين والبريطانيين، بسبب تضارب مصالح روسيا القيصرية مع النمسا والمجر في منطقة البلقان، وتحديدا مناطق الصرب لسلافيتهم وأرثوذكسيتهم، وأيضا بسبب صراعهم مع العثمانيين، الذي توافق مع مصالح جماعة سايكس بيكو، لتقاسم تركة الرجل المريض، وفعلا حشدت روسيا ضد النمسا لتهديدها صربيا، وأعلنت ألمانيا وقوفها مع النمسا وأعلنت الحرب على روسيا وفرنسا عدوتها الأولى، وانضمت لجبهتهم بريطانيا بعد الهجوم الألماني على فرنسا، عبر بلجيكا، وانضمت تركيا إلى معسكر الألمان والنمسا والمجر، لكن المفاجأة كانت من روسيا، حيث اندلاع الثورة البلشفية في أكتوبر 1917 وسقوط روسيا القيصرية، وقيام الجمهورية السوفييتية التي انسحبت من الحرب ووقعت على معاهدة صلح مع ألمانيا، وفضحت معاهدة سايكس بيكو، ووجه قائدها فلاديمير لينين، نداءً تحريضيا لنهضة شعوب الشرق ضد المستعمرين، واعتبر الحرب صراعا بين الإمبرياليات الأوروبية لإعادة تقاسم العالم.
بعد مرور أقل من عقدين اندلعت شرارة الحرب العالمية الثانية، بين دول المحور بقيادة ألمانيا وإيطاليا واليابان، ودول الحلفاء بقيادة بريطانيا وفرنسا والاتحاد السوفييتي ثم أمريكا، ورغم اختلاف أهداف دول الحلفاء في خوض غمار هذه الحرب، إلا أنه كان اضطراريا، تحالف الأمر الواقع، فالاتحاد السوفييتي وجيشه الأحمر، لم يكن من طينة أمريكا وبريطانيا وفرنسا، فهو كما يقرون بأنفسهم، يشكل تحديا وجوديا لقيادتهم دفة العالم، لذلك لم يدعموه بإخلاص أثناء الحرب وتمنوا لو انشغل هتلر به لينهار، ولا تقوم قائمة للجيشين النازي والأحمر معا، لكن الرياح تسير بما لا تشتهي السفن، فالروس وجيشهم الأحمر طارد النازيين حتى عقر دارهم، ورفعوا العلم الأحمر على مبنى الرايخ في قلب برلين، وأصبح الاتحاد السوفييتي قوة عظمى يمتد نفوذه على كل أوروبا الشرقية، وكانت الحرب الباردة بين الطرفين على أشدها، حتى أصبح تضخم الاتحاد السوفييتي عبئا على ذاته، وعلى جذره الأيديولوجي الماركسي، الذي لا يقر بوجود نظام عالمي اشتراكي في ظل تسيد الرأسمالية كتشكيلة اجتماعية اقتصادية على العالم، بحكم مداها الذي لم يصل ذروته بعد، وعليه إما أن يتحول الاتحاد السوفييتي إلى رأسمالية دولة إمبريالية شكلا ومضمونا، أو ينهار، فلا طائل له في منافسة اقتصاد السوق باقتصاد مقفص، فكان الانهيار دراماتيكيا، ومن الداخل لأسباب موضوعية وذاتية، الصين حلت الإشكال القائم بطريقة مخاتلة، دولة بنظامين، والحقيقة هو نظام واحد رأسمالي سوقي ببناء فوقي يدعي الشيوعية. روسيا ورثت التركة لتعود من جديد كقوة عظمى ببنية تحتية وفوقية رأسمالية، وهي تريد تعددية الأقطاب، فليس من العدل أن يكون الغرب وحده الخصم والحكم، في عالم لا يحتكم إلا لمنطق القوة والمصالح.
عسكرة الغرب تهديد للعالم وتحديدا للشرق وبلدان الجنوب، عسكرة أوروبا لتتولى محاصرة روسيا، حتى تتفرغ أمريكا لترويض التنين الصيني، هو نهج استراتيجي أمريكي متدرج، ويزداد تدرجه كلما مالت كفة «المنافسة الحرة» لمصلحة القوى الصاعدة من شرق وجنوب العالم، الصين وروسيا والهند وربما البرازيل وجنوب افريقيا. على أيام باراك أوباما كانت هناك تفاصيل في التوجهات الأمريكية تشي بهذا التدرج، في تعاطيه مع أزمة القرم، وفي تعاطيه مع الحلفاء الأوروبيين والناتو، وفي تعاطيه مع الصين وإسرائيل وإيران، مثله كمثل ترامب، بفارق في اللغة ودرجة التدرج أو الانحدار الأمريكي، دماثة لغة أوباما ونعومة شعاراته، لا تعني شيئا إزاء السياسات ذاتها، وتحديدا علاقات الهيمنة على مفاصل العالم، وجه ترامب ليس كوجه أوباما، إنه سافر وبلا أقنعة وهو بذلك لا يمارس الخداع. يقول ترامب: سنبني الحضارة الأكثر حرية والأكثر تقدما والأكثر ديناميكية والأكثر هيمنة في العالم، سنقود البشرية إلى الفضاء، ونغرس العلم الأمريكي على كوكب المريخ.. الأكثر حرية في فرض الهيمنة على العالم، والأخطر هو الإصرار على تلويث ليس الأرض وما عليها فقط، وانما الكون كله بلوثة جنون العظمة الأمريكية.
سوق أوروبية شاملة وأمن جماعي
بعد زوال الاتحاد السوفييتي ومعسكره الاشتراكي وحلف وارسو، ما مبرر بقاء حلف الناتو، الذي تأسس خصيصا لمواجهة التحدي السوفييتي وحلفه؟ توسع الناتو توريط أمريكي لأوروبا في استفزاز روسيا وجعل أوروبا بالوعة لتصريف السلاح الأمريكي، وعلى العكس من ذلك فإن نسج علاقات المصالح المشتركة خاصة الاقتصادية والأمنية على قاعدة التكامل والاحترام المتبادل سيبدد كل الهواجس، ويكبح أي تماد محتمل. أوروبا ترفض دخول تركيا للاتحاد الأوروبي لكنها تشترك معها في عضوية الناتو، وعندما تفجرت الأزمة القبرصية وتقسمت قبرص، لم يستطع الناتو حل المشكلة، مع أن كل أطراف الأزمة هم من أعضاء الناتو، بريطانيا ما زالت تحتل إقليم جبل طارق الإسباني، والطرفان أعضاء في الناتو، وهناك العديد من الدول الأوروبية ليست أعضاء في الاتحاد الأوروبي، الذي يعاني من افتقاره لسياسة خارجية وأمنية موحدة وفاعلة، بسبب اختلافات سياسات الدول الاعضاء، بريطانيا خرجت من الاتحاد الأوروبي بتشجيع أمريكي، كل ذلك يحتم إعادة النظر، بما هو قائم لمصلحة احتواء الجميع في سوق أوروبية مشتركة، وببناء أمني جماعي ومجلس أمن أوروبي، من دون حق للنقض، يكفل السلام القاري من الأورال حتى النورماندي، أما مشاكل رسم الحدود بين روسيا وجمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق، فهي متوقعة، لأسباب جيوسياسية وتاريخية كثيرة، ومن الحكمة عدم استغلالها لإضعاف روسيا، بل حلها عبر تفاهمات متقابلة.
كاتب عراقي
نقلا عن القدس العربي