حسن العطار يكتب: فكرة التقسيم في العراق استقرت في العقول والقلوب
أثارت جلسة الكونغرس الأمريكي التي عقدها يوم الثلاثاء من الاسبوع الماضي ضجة داخل الأوساط السياسية العراقية، حيث كانوا يتوقعون ان يصوت اعضاء الكونغرس على مشروع لتقسيم العراق طبقا لمكوناته الرئيسية الثلاث. وتباينت وجهات النظر العراقية حول هذا المضوع الذي يعتبر تدخلا سافرا وغير قانوني في الشأن السياسي الداخلي للعراق ويمس السيادة الوطنية للعراق.
وكانت ردود الأفعال العراقية تتفاوت بين من دعا الحكومة الى اتخاذ موقف حازم وتحريك الدبلوماسية لإيقاف مناقشة هذا القرار، والبعض الآخر طالب بطرد السفير الأمريكي من العراق وغلق السفارة الأمريكية.
فكرة تقسيم العراق الى ثلاثة كيانات ليست وليدة اليوم، فمنذ الغزو الأمريكي – البريطاني للعراق عام 2003م اصبح خيار التقسيم متداولا في اروقة مراكز القرار الأمريكية، وبدأت معاهد الدراسات السياسية الاستراتيجية ووسائل الإعلام الأمريكية تروج لمجموعة من الأفكار والمفاهيم التي تخدم مشروع التقسيم، وتعمل على إقناع الشعب العراقي بفكرة التقسيم، كما يتم تصوير العراق للرأي العام العالمي على انه دولة مصطنعة بالإكراه من اجزاء متنافرة.
أول من خطَ مشروع التقسيم في العراق هو الحاكم المدني الأمريكي "بول بريمر" من خلال إنشاء مجلس الحكم الذي أرسى دعائم نظام المحاصصة الطائفية والعرقية، وللأسف الشديد إنساق المسؤولون العراقيون وقتها بوعي أو غير وعي وراء هذا المخطط الخطير والمشبوه، وبذلك غاب مفهوم الدولة الوطنية القائمة على مبدأ المواطنة. كما ان وزير الخارجية الأمريكي الأسبق "هنري كيسنجر" قد دعا في شهر مارس 2006م الى تقسيم العراق الى ثلاث مكونات مرجحا ان يكون مصير العراق كمصير يوغسلافيا السابقة.
كما دعا نائب الرئيس الأمريكي الحالي "جو بايدن"، عندما كان نائبا عن الحزب الديمقراطي في الكونغرس الأمريكي في شهر مايو 2006م، الى تقسيم العراق الى ثلاث مناطق شيعية وسنية وكردية يتمتع كل منها بحكم ذاتي، معللا دعوته المشبوهة بأنها الحل الأفضل لتجنب تمزيق العراق عبر العنف الطائفي. غير ان "بايدن" تراجع عن رأيه السابق في شهر أبريل 2015م داعيا الى عراق موحد لمواجهة خطر تنظيم "الدولة الاسلامية". ما الفائدة من هذا التراجع بعد عشر سنوات حيث رسخت فكرة التقسيم في عقول وقلوب الكثير من العراقيين، واصبحت مطلبا للكثيرين منهم.
وفي السياق ذاته، لا يخفي الأكراد رغبتهم في إقامة دولتهم المستقلة، وقد عبر عن هذه الرغبة بوضوح "السيد مسعود برزاني" خلال زيارته للولايات المتحدة الأمريكية في شهر مايو من العام الجاري، حيث قال: إن وحدة العراق اختيارية وليست اجبارية. واضاف لاحقا عبر حسابه على تويتر قائلا: "لا اعلم متى ستستقل كردستان، لكن الاستقلال بالتأكيد على الطريق". في الواقع حكومة اقليم كردستان الحالية تدير الإقليم كأنه دولة مستقلة عن العراق، فالإقليم لديه حكومة، وحدود، وعاصمة، وعلم، ودستور، وموارد اقتصادية، وجيش، واجهزة امنية، ولا ينقصه إلا ان يعلن إستقلاله ويطالب العالم بالاعتراف به كدولة مستقلة.
فشل نظام الحكم المركزي منذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة في إقامة دعائم دولة الحرية والعدالة السياسية والاجتماعية، وبدلا من ذلك أسس نظام حكم تقوم دعائمه على التسلط وحكم الفرد والتمييز العرقي والطائفي. والمؤسف حقا انه بعد إسقاط نظام "صدام"، اقام الأمريكيون نظام "ديمقراطية الطوائف والعرقيات". وبدلا من ان تكون الكفاءة والنزاهة والاخلاص معايير لتولي المناصب العليا، صارت الإنتماءات الطائفية والعرقية هي التي تتحكم بهايكل ومفاصل الدولة، وهذا بدوره أدى الى انتشار الفساد والرشوة والمحسوبية.
ليس العراق هو البلد العربي الوحيد الذي يواجه احتمال التقسيم بسبب التمييز الطائفي والعرقي، بل هناك بلدان عربية اخرى تواجه نفس المشكلة، وذلك بسبب إخفاق حكوماتها – منذ إنتهاء الحقبة الاستعمارية حتى يومنا هذا – في تطبيق وتفعيل مفهوم المواطنة كأساس وركيزة في التعامل بين السلطة والمواطن. هذه الدول (للأسف الشديد) لا زالت تنظر لهذه الأقليات من مواطنيها بعين الشك والريبة، وغالبا ما توجه لهم تهم العمالة والتآمر والارتباط بقوى خارجية، أي طوابير خامسة.
والأنكى من ذلك، ان هناك أقليات تحكم بعض البلدان العربية تتهم الأغلبية من شعوبها بنفس التهم، وكل ذلك بسبب مطالبة هذه الشعوب بالمشاركة في السلطة والثروة التي حرموا منها. فكرة التقسيم والانفصال عن البلد الأم إستقرت في عقول وقلوب الكثير من الأقليات في الوطن العربي.
آخر الكلام: في مقابلة مع إذاعة الـ بي بي سي، سأل المذيع احد المواطنين العراقيين المطالبين بانفصال إقليمهم عن حكومة بغداد، قائلا: انتم لا تملكون موارد اقتصادية كبيرة وسوف تعانون من الفقر اذا تم الانفصال. رد المواطن العراقي بالقول: نحن الآن نعاني الفقر والذل معا، ومن الأفضل ان نعيش فقراء ونحتفظ بكرامتنا. كلام بليغ يعني الكثير لمن يملك الحس السليم.