هل يموت الكون؟!
عندما ينظر أحدنا إلى السماء خاصة في الليالي التي تكون فيها صافية، تبهرنا وتدهشنا وتسحرنا، وتجعلنا نذوب هائمين، فنكتب الشعر، ونفكر في المحبوب، ونفكر في حلول لمشاكلنا الشخصية، ونستريح من عناء العمل والحياة، إلا أن هناك نوع من الناس لا ينظر إلى السماء بتلك الطريقة، بل ينظرون متسائلين “كيف ستبدو السماء بعد مليارات السنين من الآن؟!”، هذا النوع من العلماء معروفون بعلماء “الكونيات”، يقضون أوقاتهم بالتفكير في هذا السؤال – أهو الفراغ الذي يجعلهم يفكرون في ذلك؟! لا أعتقد!
من المعروف لدى فطرة البشر أن كل شيء يعيش الآن سيموت حتمًا وذلك ليس له علاقة بدين أحدهم أو اعتقاده، وإنما هي قاعدة فطرية بشرية لدى الجميع – تقريباً! – عن الحياة التي نعيشها، ومن القواعد البشرية أيضًا أن هناك علاقة وثيقة بين المستقبل والحاضر، ونهاية الكون مرتبطة ارتباطـًا وثيقـًا بحال الكون الآن وشكله وما يحويه، وكأحد هؤلاء البشر الطبيعيين فمن حقك أن تعرف كيف سيموت هذا الكون الذي تعيش فيه، أو بمعنى أدق، أحد التوقعات التي توقعها أولئك الهائمون من علماء الكونيات، لأنك ببساطة قد لا تشهد هذه اللحظة المهيبة المثيرة التي سيموت فيها الكون، أو أنك أبدًا لن تشهدها!، ولنأخذ نحن الجانب الفلسفي من الأمر ونترك لهم رياضياتهم التي لا يقوى عليها إلا كل هائم مثلهم، فللموت إثارة مثل الولادة، وللنهاية هيبة وجلال مثل البداية!
منذ أكثر من 100 عام، طور ذلك الفلتة البشرية “ألبرت أينشتاين” نظرية النسبية العامة، واضعًا المعادلات التي ساعدتنا – نحن البشر – بعد ذلك على فهم العلاقة بين مكونات الكون وشكله، وقد تبين لنا أن الكون يمكن أن يكون منحنيًا كالكرة، وهو ما يسمى بالمنحنى الإيجابي أو المغلق، أو من الممكن أن يكون شكله كالسَّرْجِ، وهذا ما ندعوه بالمنحنى السلبي أو المفتوح، أو من الممكن أن يكون مسطحًا، والشكل والذي يحدد كيف سيعيش الكون وكيف سيموت، نعلم الآن أنه قريب جدًا إلى الشكل المسطح، وهذا عن الشكل، ولكن على كل حال فما يحويه الكون من مكونات أمامها فرصة كبيرة للتأثير في مصيره وكيفية موته، وللتنبؤ بالكيفية التي سيموت بها هذا الكون، ومن المنطقي أن تكون لدينا الإمكانية للتنبؤ بالكيفية التي سيتغير بها الكون مع مرور الوقت، وبالطبع لدينا حاليًا هذه الإمكانية، وذلك بقياس كميات كثافة الطاقة للمكونات المختلفة للكون اليوم.
إذن، مم يتكون الكون؟ الكون يحتوي كل الأشياء التي نراها، كالنجوم والغازات والكواكب، وندعو هذه الأشياء بالمواد العادية أو الباريونية، وعلى الرغم من أننا نراهم حولنا بكل مكان، فإن كثافة الطاقة الكلية لهذه المكونات صغيرة جدًا، فهي لا تمثل سوى قرابة 5% فقط من الطاقة الكلية للكون، وماذا عن ماهية ال95% المتبقية؟
أقل من 27% من بقية كثافة الطاقة في الكون مكونة من شيء يسمى بالمادة المظلمة، وهي اسم على مسمى، فهي تتفاعل مع الضوء بشكل ضعيف جدًا جدًا فلا تُشع ولا تعكس الضوء بالطريقة التي تقوم بها النجوم والكواكب الأخرى، ولكنها خلاف ذلك تتصرف كمادة عادية حيث تجذب الأشياء بفعل جاذبيتها، فتدور حولها الأشياء، وتحني الضوء، وتحني الفضاء المحيط بها، وجدير بالذكر أن تفاعل جاذبيتها تعد الطريقة الوحيدة التي يمكننا بها الكشف عن المادة المظلمة، والعلماء في أنحاء العالم ما يزالون يحاولون اكتشاف جسيم المادة المظلمة، إذن، فلدينا 5% مادة عادية + 27% مادة مظلمة = 32%، ما زال هناك 68% متبقية من كثافة طاقة الكون أطلقنا عليها “الطاقة المظلمة”، أشعر بك بعد هذا المصطلح الأخير، فقد كنت تحاول تقبل ال27% من المادة المظلمة على مضض، والآن تطلقون على ال68% المتبقية الطاقة المظلمة.
ودعني أكمل تلك الصدمة أن الطاقة المظلمة أكثر غموضًا من المادة المظلمة والتي وإن كنا لا نراها لأنها لا تشع ولا تعكس الضوء ولكننا نكتشفها من تفاعل جاذبيتها، فإن الطاقة المظلمة لا تتصرف كأي شيء نعرفه على الإطلاق ولكنها في المقابل، لتزداد غموضًا أكثر، فإنها تتصرف بشكل أكثر قوة ضد الجاذبية وهو مالا تملكه المادة العادية ولا المادة المظلمة، قوة هائلة غامضة تعمل ضد الجاذبية تعمل على تباعد الكون عكس ما كنا نعتقده في أن الجاذبية ستجذب أجزاءه على بعضها بعضًا، فأطلقنا عليها الطاقة المظلمة، فهي لا تعمل على تباعده فقط، بل يتباعد بتسارُع متزايد، كأنك ألقيت بهذه الفأرة التي في يدك لأعلى وكلما ابتعدت عنك زادت سرعتها فتبتعد أكثر!، أي أن الكون يتباعد عن بعضه بمعدل متزايد باستمرار، وكأننا نعيش هائمين في ظلام في هذا الكون، مثل دودة تعيش على أمل أن يُثقب لها عين تبصر بها ما تتلمسه وتتحسسه منذ آلاف السنين!
والفكرة السائدة عن الطاقة المظلمة أنها عنصر كوني ثابت، ومعنى ذلك أنها في حد ذاتها بجانب غموضها وتأثيرها الغريب فلديها خاصية غريبة، في أنها تتمدد بازدياد حجم الفضاء لتحافظ على كثافة ثابتة للطاقة!، أي كلما توسع الكون كما يفعل الآن كلما زادت الطاقة المظلمة، ولتربط بين خاصيتها وتأثيرها حتى لا تتوه في غياهبها الساحرة، “فالطاقة المظلمة تعمل ضد الجاذبية فتُبعد أجزاء الكون عن بعضها بمعدل متزايد فكلما بعُد جزء عن الآخر أكثر كلما زادت سرعة تباعده أكثر وأكثر بينما هي في حد ذاتها – أي الطاقة المظلمة – تزداد كلما اتسع الكون أكثر لتحافظ على كثافة ثابتة للطاقة في الكون!”، بينما على الجانب الآخر ومع اتساع الكون وتناثر أجزائه فالمادة الباريونية (العادية) والمادة المظلمة لا تتمددان مع الكون وتخفّان أكثر وأكثر كلما اتسع الكون.
والكون يتسع الآن بينما أنت تقرأ، ومع مرور الزمن تزداد سيطرة الطاقة المظلمة على مستقبل الكون، مما سيجعله أكثر برودة، وما يزال الكون متمددًا بسرعة أكبر وأكبر، حتى ينفذ مخزون الكون من الغازات وينفذ وقود النجوم وتخمد تاركة الكون وليس فيه إلا الثقوب السوداء، ومع مرور الزمن تتلاشى الثقوب السوداء تاركة الكون “بارداً، فارغاً”!، حتى يموت على الحالة نفسها التي بدأ فيها، مُتسارعاً!
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست