سلام على مهدي عاكف
لعل كارثة التنازع الأخيرة بين قيادات الإخوان أصابت الكثير من الشباب ببعض الصدمة والإحباط، فبعد اللقاء المحبط للدكتور محمود حسين على قناة الجزيرة مباشر الذي تلاه ظهور التنازع بين قيادات الإخوان المختلفة في الداخل والخارج توجّع قلب كل محب لدعوة الإخوان ومهتم بمستقبلها الذي سيؤثر بدون شك في مستقبل مصر والعالمين العربي الإسلامي.
وفي الليلة الظلماء يُفتقد البدر
التعميم هو آفة الحكم على الأحوال والأشخاص، وأن تلوك الألسنة النقد والتجريح لجيل كامل بسبب خطأ البعض منه لهو عين الظلم وعلامة اتباع الهوى.
إلا أننى في هذا التيه والضبابية أتحسس وألتمس نموذج يُبصّر عيني، ويجمع شتات قلبى ويُجلّى فهم عقلى؛ فلم يبرز أمامي إلا ذلك الطود الشامخ والشخصية الرائعة وهو الأستاذ محمد مهدى عاكف (المرشد السابق للإخوان المسلمين) حفظه الله.
ليس دفاعا وليس تبريرا… بل تذكيرا
والسطور القادمة لا يظن البعض أنها دفاع عن أشخاص أو مجموعة أو جيل بعينه بل هو مجرد موازنة وتذكير بحقائق ربما طمستها وطأة الواقع الأليم الذي تمر بها جماعة الإخوان ومصر والعالم الإسلامي، وقد رأيت أن جيل السابقين من الإخوان المسلمين يتعرض لحملات متعددة الدوافع، فمن مدفوع بالخوف والشفقة على الدعوة وآخر مدفوع بالتشفي وآخر مدفوع بنية الهدم، والله أعلم بالسرائر.
فأردت أن أقدم نموذجا عمليا يغني عن كثرة الحديث، وأذكر بأحداث عايشها الكثيرون، التى ربما أهوال العامين الماضيين قد أنستنا منها الكثير.
“وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ”
بين الشباب والشيخوخة
الشباب أو الشيخوخة حالة شخصية ونفسية وليست حالة عمرية، فكم قابلت من شيوخ يحملون بين جوانحهم قلوب مُلئت عزما ومثابرة وعلى النقيض كم قابلت من شباب يحملون قلوب المتهوكين.
ويجب أن نقرر أن الحكمة ليست حكرا على الشيوخ دون الشباب كما أن الحماسة والإقدام ليس حكرا على الشباب دون الشيوخ.. ربما تغيرت قناعتك أخي القارئ بعد أن تقرأ السطور القادمة.
لقائي بالأستاذ عاكف
اعتقد أنه من حسن طالعي أنني اهتممت مبكرا بتدوين تاريخ جماعة الإخوان، مما يسر لي وشرفنى بمقابلة الكثيرين من الرعيل الأول لجماعة الإخوان المسلمين.
كان لقائي بالأستاذ عاكف من أهم محطات تدوينى لتاريخ الجماعة، وقد كان أول لقاء لي به فارقا، فأثناء جمعي لمادة كتابي الأول عن القائد الأخير للنظام الخاص (الشهيد يوسف طلعت) المعروف بأسد القنال كان حتما أن أقابله وأعرض عليه المادة.
حددت معه موعدا في بيته بمدينة نصر قبل أن يتولى منصب المرشد ببضعة أشهر، وذهبت إليه بصحبة مهندس صديق كان معه فكرة لمشروع دعوي إلكتروني، وما أن جلسنا وعرف الغرض من الزيارة وأعطيته المادة التي جمعتها لأخذ الرأى فيها حتى بادرنى بالسؤال:
- ما هي مهنتك؟
- مهندس.
- وما علاقتك بالتأليف والتاريخ؟
- أنا مغرم بقراءة التاريخ وأهوى الكتابة.
- مأساة جيلكم عدم التخصص، ماذا لو أبدع كل شخص في تخصصه، ونبغ فيه ألا يكون ذلك خير للأمة … مشكلة عموم الإخوان أنهم أطباء ومهندسون وأساتذة جامعات وتجدهم يفعلون كل شيء إلا الإبداع.
(وحدثني وصاحبي بحديث لا أنساه عن الإبداع وبذل الجهد وأن توضع كل كفاءة في مكانها فيكون ذلك رافعة للتقدم والنهوض بالأمة)
فمضيت من عنده أنا وصاحبى بنظرة جديدة للحياة فأبدع صاحبى في تخصصه (برمجة الحاسب) حتى صار اليوم مديرا تنفيذيا بفرع الشرق الأوسط لأكبر شركات البرمجة العالمية، والتحقت أنا بالدراسات العليا في تخصصي الهندسي، وحصلت على شهادتها، إلا أننى لم أدع كتابة التاريخ.
ولم تنته قصة تلك الليلة، فقد لاحظ حزني على عدم ترحيبه باهتمامي بالكتابة، وفي صباح اليوم التالي، بعد أدائي لصلاة الفجر أخلدت للنوم، وبعد برهة فوجئت بصوت الجوال، فانزعجت، وكنت بين النوم واليقظة فجائني صوت يقول لي:
- السلام عليكم – المهندس أحمد؟؟
- وعليكم السلام… انت مين ؟؟
- أنا مهدى عاكف (بكل تواضع)
فانتفضت من سريرى كمن لدغته حية
- أسف يا فندم .. آسف يا أستاذنا
- هل كنت نائما؟؟
- نعم.
- فيه أخ ينام بعد الفجر؟؟ يا كسلاااااااااان
(عادة فضيلته – أدام الله له العافية – أن يستيقظ قبل الفجر بساعة يصلي قيام الليل ثم بعد الفجر يقوم ببعض التمارين الرياضية ومن ثم يستأنف أعماله)
فرددت عليه:
- آسف يا فندم
- عموما أنا قرأت المادة عن يوسف طلعت ولا بأس بها وسأعمل للمساعدة على نشرها وبالنسبة للمشروع الإلكتروني، سأعرضه على مختصين، وهو فكرة جيدة.
وبالفعل وجدت بعد شهور المشروع الإكترونى الدعوي لصاحبي قيد التنفيذ، وقام فضيلته بسعي مشكور لنشر الكتاب إلا أنه لحساسية الموضوع، لم ييتيسر النشر إلا بعد الثورة مباشرة وتشرفت بتقديمه للكتاب.
وتعددت لقاءاتي بعد ذلك مع فضيلته أثناء وبعد منصب المرشد، وفي كل مرة كنت أنهل قيمة ومعنى، وأضيف لحياتي شيئا جديدا.
المغامر مهدى عاكف (قصة تكتب بماء الذهب)
الدارس لتاريخ مهدي عاكف يعلم أنه أمام شخصية اتسعت على الإحاطة، وأمام مغامر خاض في ريعان شبابه مغامرات ربما كانت الواحدة منها كفيلة بعمل فيلم من نوع الأكشن الهوليودية.
ولد عاكف عام نشأة دعوة الإخوان سنة 1928 وارتبط بالجماعة منذ أن كان في المرحلة الثانوية والتحق بكلية الهندسة، فسأله الإمام الشهيد حسن البنا:
بأي كلية التحقت؟
فأجاب: الهندسة.
فسأله: وهل للإخوان أحد في كلية التربية الرياضية؟
فأجاب: لا.
ومن فوره ذهب عاكف وسحب أوراقه من الهندسة والتحق بكلية التربية الرياضية على الرغم من أنها لم تكن من الكليات المرموقة وقتها إذ أحس برغبة الإمام الشهيد في ذلك وحاجة الإخوان الشديدة لمدرب تربية رياضية.
التحق عاكف بالنظام الخاص لجماعة الإخوان وفي عام 1951 مع بدء المقاومة الشعبية ضد الإنجليز في القناة، كان عاكف هو مسئول معسكرات التدريب لطلاب الجامعات المصرية المتطوعين للعمليات الفدائية بالقنال، وشارك بنفسه في عمليات نوعية ضد القوات الإنجليزية في الإسماعلية والتل الكبير.
وبعد الثورة وحدوث الصدام بين الإخوان وعبدالناصر كان لعاكف مغامرات نذكر واحدة منها فقط:-
- عندما تم القبض على العقيد عبد المنعم عبدالرؤوف وكان من إخوان الجيش ومن الضباط الأحرار وهو الذي حاصر الملك فاروق في قصر التين بالإسكندرية وأجبره على التنحي، عندما تم القبض عليه صدرت الأوامر لعاكف بتحريره من محبسه فقام بعمل خطة جريئة عبقرية تمثلت باختراق مكتب جمال عبدالناصر نفسه والحصول على خطاب موقع بخاتم مجلس قيادة الثورة بنقل العقيد عبدالمنعم عبدالرؤوف لمكان آخر ثم قامت مجموعة من النظام الخاص على رأسها عاكف بارتداء ملابس عسكرية وتوجهت لمحبس (عبدالرؤوف) وقدموا لإدارة السجن الخطاب التي سلمت عاكف ومجموعته (عبدالرؤوف) وأدوا التحية العسكرية لعاكف ومن ثم تم تهريب (عبدالرؤوف) خارج البلاد.
وبناء على ما سبق وبطولات أخرى مما لا يتسع المجال لذكرها عندما تم القبض على (عاكف) تم تعذيبه عذابا شديدا وحكمت عليه محكمة الشعب بالإعدام، فواجه الحكم باستهانة وثبات، وفي ليلة التنفيذ جاء القرار بتخيف الحكم للمؤبد.
وللتذكير نحن نتحدث عن شاب خاض وقاد هذه الأحداث، ولم يتجاوز عمره السادسة والعشرين ربيعا.
دائما مع الشباب
خرج (عاكف) من السجن فألحقه المهندس حسب الله الكفراوى وزير الإسكان (وكان من إخوان شعبة العباسية) بوزراة الإسكان حيث تم تكوين إدارة للشباب تعنى بشئون تدريبهم وتأهيلهم في المجتمعات العمرانية الجديدة، وأصبح عاكف مديرها.
وبعدها سافر إلى السعودية مديرا في المنظمة العالمية لشباب العالم الإسلامي حيث جاب العالم الإسلامي في معسكرات تثقيف ونشر للدعوة الإسلامية.
ثم سافر إلى ألمانيا وأسس أول وأكبر مركز إسلامى في أوربا بموينخ، وانتشرت الدعوة في أوربا وتتابع إنشاء المراكز بعدها بمشاركة واضحة من مهدي عاكف.
عاكف مرشد غير اعتيادي
أعلن عاكف أنه لن يستمر في ولايته كمرشد أكثر من فترة واحدة، وأراد أن يكون أول مرشد سابق، لم يكن يعرفه من الإخوان الكثيرون، ولا حتى عموم الناس والإعلام، ولكن فور توليه منصب المرشد سرت في الجماعة روح جديدة، يذكرها كل من عايش تلك الفترة، فخرجت مظاهرات الإصلاح في العام 2005 ونزل الإخوان الشارع بعد انقطاع دام خمسين عاما.
ووصل 88 عضوا من الاخوان للبرلمان المصري، وعندما حوصرت غزة في العام 2006 أعلن مهدي عاكف أننا سندافع عن غزة في الشوارع المصرية، وبالفعل نزلت جموع شباب الإخوان محاولة الوصول لميدان التحرير، وتم اعتقال المآت منهم.
دعك من فلتات لسانه في التصريحات الإعلامية التى واجهها لأول مرة في حياته، فشخصية المغامر تكون دائما مندفعة، وربما لا تجيد المناورات الكلامية.
وعد عاكف أن يكون مرشدا سابقا وبالرغم من عواصف الخلاف التى عصفت بمكتب الإرشاد في العام 2010 ومطالبة الكثيرون له بالبقاء في منصبه درءا للفتنة إلا أنه أصر على عدم إخلاف وعده، وقال:
كيف يقطع مرشد الإخوان وعدا ويتراجع فيه؟
ولماذا لا نعطي للآخرين نموذجا للتخلي عن المناصب بدون اضطرار؟
وكيف لجماعة مثل الإخوان أن يتوقف استقرارها على شخص أيا كان حتى لو كان المرشد؟؟
وتم انتخاب الدكتور محمد بديع، وفي يوم الإعلان عن المرشد قال (عاكف) للدكتور بديع:
“يا فضيلة المرشد أنا جندي من جنود الدعوة، وتحت أمرك في أي وقت”
وبعد عام حدثت الثورة واستأذن عاكف من المرشد (محمد بديع) في الذهاب إلى ميدان التحرير للاعتصام – بالرغم من تخطيه الثمانين – فرفض الدكور بديع حتى لا يستغل النظام وجوده في الدعاية ضد الثورة وميدان التحرير.
وبعد الثورة وموجة الظهور الإعلامى للإخوان لم يكن يتصدر الأستاذ عاكف للإعلام على الرغم من إلحاح الكثير من الفضائيات عليه، فلم يظهر بعد الثورة إلا قليلا.
ومما أذكره عنه -على مسئوليتي– بعد إنشاء الإخوان لحزب الحرية والعدالة أنه كان مقتنعا بفكرة أن يكون العمل السياسي من اختصاص الحزب فقط، ويتحمل مسئوليتها كاملة وتتفرغ الجماعة للعمل الدعوي والمجتمعي وانتقد – حفظه الله – أن يتم الإعلان عن ترشح المهندس خيرت الشاطر للرئاسة من مكتب الإرشاد، وليس من الحزب قائلا: (امال أنشأنا الحزب ليه ؟؟ )
سيفي على نحري وسهمي إلى صدري
في تعميم مُخل يشمل كل شيوخ الإخوان تتأجج الحملة التى تنال جيلهم، التي تسوق فكرة واحدة هى أن هذه القيادات قد شاخت، وأنها ما زالت متمسكة بمقاعدها القيادية على الرغم من الفشل والإخفاقات التي طالت الجماعة تحت قيادتهم.
وربما كانت تصرفات البعض من شيوخ الإخوان ممن كانوا وما يزالون في مواضع القيادة تبعث على الحزن والحسرة إلا أن ظلم الجيل كامل يبعث على الأسى.
وللأسف عاقبة تلك الحملة وهذا التعميم يدرك كل صاحب بصيرة أنه كارثي على دعوة الإخوان، إذ أنه يقطع الصلة بين جيلين، جيل حمل فكر الدعوة وبلغها وحافظ عليها في حقبة من الزمن، وجيل آخر المفترض أن يحمل اللواء من الجيل السابق ويسير بالدعوة مكملا ما بدأه الإمام الشهيد حسن البنا.
فإن حدثت القطيعة أو الشك أو سوء الظن بين الجيلين فذلك يعني نهاية التوريث للفكرة وانقطاع أدبيات الدعوة الأخلاقية، وذلك لا يعني إلا أن ما فشلت فيه الأنظمة القمعية المتوالية بالقضاء على الإخوان، فإن الإخوان قد قدموه لهم بإيديهم على طبق من ذهب.
بعضي على بعضي يُسلط سيفه.. والسهم مني نحو صدري يُرسل
النـار تـوقـد في ديـار عشـيرتي .. وأنـا الذي يـا لـلمـصيبة أشـعل
ورسالة إلى شباب الإخوان
الله الله في دينكم ودعوتكم..الله الله في وطنكم وثورتكم
فالذي يعمل لله ولدينه لا يضيره فساد الأحوال وفتنة الأشخاص, وإن ضل البعض فإن الأغلب ما زال على الجادة وقد قدم ويقدم من نفسه وماله وولده.
فتعلقوا بفكرتكم لا بالأشخاص وبدعوتكم لا بالتنظيم واعلموا أن قابل الأيام لكم، وستكونون في موضع من تنتقدونهم الآن فيرى الله ما تصنعون.
سلام على مهدي عاكف، عندما تنازل عن منصبه الأعلى والأسمى في الجماعة ليصدق في وعده.
سلام على مهدي عاكف، عندما ترك القيادة ليعطي المثل والقدوة لمن يأتي من بعده.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست