خُضار مشكّلة
يستهوي البعضُ أخْذُ فُسحةٍ من الوقت في سوق الخُضار متفنّنين في اختيار الأصلح منها والأكثر نضارةً ونُضجًا ويعتبرون هذا الأمر ممّا يفتحُ الشهيّة للأطعمة بعدَ أن يتحوّل الخضار المختار لطبخة ومائدة في أحد أيام الأسبوع، ويشيعُ على ألسنةِ النّاس أنّ ربّة البيت الكسولة والتي لا تستيقظ سوى قبل عودة زوجها من عملة بنصف ساعة هي التي تميلُ لطبْخِ الخضار جميعه في أكْلة واحدة يدعونها “خُضار مُشكّلة” لأنّ الأمر لا يتعدّى غسل الخضار وتنظيف بعضه من قِشْرهِ وتقطيعه بقطع غير متساوية ورَمْيِها في حَلَّةِ الطبخ مع قليل من لحم ماعز أو دجاج أو نكهة أحدِهما لينضُجَ الطعام بسرعة فائقة متأثّرًا بهذا الخلط غير المنطقي بين الخيارِ “والفقّوس”.
مُشكلة الخُضار المشكّلة أنّها لا ترتبط بقاعدة معيّنة تجعلُ من بعض الخضروات محْرمًا لأخرى وبعضُها غير محْرمٍ لها، فبالإمكان تشكيل مائدة من خضروات لا يمتُّ بعضها للآخر بصلة نسب ولا فصيلٍ ولا وطن، ومن الممكن أيضًا أن تجدَ السمة الغالبة في الإناء خضارٍ من ذوي الحشائش مع خُضار آخر له طابعُ الثّمار، وليس للّون أو الطّعم أيضًا علاقةٌ في الموضوع إذِ الحالُ مرتبط بانتقاءِ “الشِّيفِ” أو الخادمة أو المرأة المتزوجة حديثًا أو المرأة من عجائز القرن الماضي.
صنفٌ من الخُضار يحتاج “للتقميع” وصنفٌ لا بدّ له من “التقْوير” وأصنافٌ أخرى مصيرها “التّخريط” وخُضارٌ سهل التّعامل لا يحتاج سوى قطْع الرأس ليستكين في الطّنجرة مسلّمًا أمره لمن يشتهيه، وخضروات لا يكفيها من البَتْرِ إلا قطْعُ رأسٍ وذيْلٍ لأنّها ثُنائيّة التمرّدُ والعِصيان، ومن الخُضار ما هو ناعمُ الملمس لا مانع من أكلِه بقشره وغطائه وجلده ومنه ما هو خشِنُ الطابع والغطاء، اخترَعَ أهل الطّبخِ والنّفخ سكاكينَ خاصّةً للتخلّصِ من حراشِفه كأنّه السّمك، وفي الخضروات ما تكفي الواحدة منها أو جزءٌ منها ومن الخُضارِ ما لا يكفي منه إلا عشرات الحَبّات، ومعَ كلّ هذا فالتشكيلةُ اختياريّة.
وأغلبُ النّاس يُطلِقون اسمَ الخُضار على كلّ ما يحتاجُ للنارِ في إعداده ليكون جاهزًا وصالحًا للأكل رغمَ أنّ في تلك القائمة الطويلة ما ليسِ بأخضر وليس فيه من درجاتِه مقدار أُنْمُلة، واخضرارُ هذه الثّمار راسخٌ في الذّهن بناءً على اللونِ الغالبِ للنّبات الخارج من الأرض، فلا بدّ أن تقْفِزَ الحقيقة الكامنة في العقول الباطنة بأنّ كل الذي تَمُدُّنا الأرض به أخضر لا محالة وتحجُبَ رؤية العيون “للباذنجان الأسود”و”الفلفل الأحمر”و”الكُرمْب الأبيض” فهو في الأصل أخضر شاءَ أم أبى.
أعَجبني جدًّا أن أخوضَ غمارَ هذا التشكيل في موائد شعوب العالم وراقَ لي للغاية أن يختلف الإنسانُ عن أخيه الآخر في جزءٍ بعيد من الدّنيا ذوقًا وطريقةً واختيارًا، فبعضُ المدن في الكون الفسيح تُصرّ على أنّ “الخوخ” من فئة الخضروات بينما عالمنا العربي في أغلبه يصنّفه في قائمة الفواكه، وتطبُخُ شعوبٌ في إفريقيا “المشمش” مع اللحم وتُضيفُ شعوبٌ أخرى “الأناناس” كخُضارٍ في آنية الأرز والأطعمة ذات الطابع القمحي، ولكنّ بلاد الشّام لا زالتْ تقفُ شامخةً في أوائل البلدان التي لا تأكل الخضروات دون “حَشْوٍ” فهم يقتلعونَ بطون الخُضار ويضعونَ بدلًا منه “حشوًا” من مفروم اللحم أو دقيقِ خضروات أخرى أُعِدَّتْ بشكل معيّن لهذا الغرض.
وفي العموم يجدُ بعض الخُضار مصيرًا هادئًا بعيدًا عن النّار والطّهْي ليستقرّ فيما يسمّيه أهل تذوّقِ الطّعام “السَّلَطة”، فهي مجموعة من خُضارٍ خفيف ولطيف وهادئ يجتمع مع بعضه البعض في أواصرَ جمعيّة تسبِقُ الموائد الكبيرة والأطباق الرّسميّة وتتفرّعُ هذه السّلطات فروعًا وأقسامًا عصيّةً على الحصر والجمْع، وللخُضار ”شُرْبة” تُطْحَنُ أو تُهرَسُ فيها خضرواتٌ معينة ليستلذّ بها الضّيوف قبل أكل الدّسَم والثقيل من الطّعام، وللخُضارِ “مَرَقٌ” وللخضارُ “أَلَقٌ”.
وأمّا “سَلْقُ” الخُضارِ ووضعُه مع بعضه في طبَقٍ واحدٍ متميزًا عن باقي الأكلات بأنه يروق لكلّ الأذواق بإضافة ما يشاءُ الشخص من مرطّبات أو نكَهات أو بهارات أو زيوت فتلكَ عادةُ إخواننا “في جنوب وشرق آسيا” الذين يميلونَ إلى هذا الطّبع الذي يعتبرونه في الصّحة تاجٌ في العناية بالبدن علاجٌ، ولكَ أن تعرِفَ بأنّ “تخليل” الخضروات واردٌ وواقعٌ وعمليّ عمَدَ له النّاس في زمنٍ يرغبونَ فيه بالاحتفاظ بكثير من الخضروات لمدّة طويلة قد لا يجدونَ فيها نفس الصّنف في غير موسمه الحصاديّ، لكنّهم اليوم “يُخلّلُون” الخضروات ترِفًا وزيادةً في التنويع والتّشكيل في خيارات الأطعمة ويستخدمون “المُخللات” كفواتح شهيّة لأطعمة في الأصل النّاس تُحبّها لكنّه قانون المطبخ العربي الذي يشبه إلى حدٍّ كبير العالم العربي.
دخَلَ الخُضار “كتشكيلةٍ” مُنظّمة في أعظم مباريات “البيتزا” العالميّة وتضامن مع رفيقاته وزميلاته في أجواءٍ لم ينتقدها عليه أكثرُ المُحلّلين الرياضيّين توفيقًا في توقّع الانتصارات وترجيح الرّكلات لأنّ خُضار “البيتزا” مختار بعناية ودقّة تضمنُ الفوزَ في كلّ البطون وتعرفُ الوصول لكلّ العالم بجغرافيّته المتناثرة متسابقةً مع “الكابتشيتو” و”البيبسي” في غزوِ العالم العربي والعالم الهندي والعالم الإفريقي.
نحتاجُ في أوطاننا لكلّ الخُضار بل وعموم الخضروات لأنّها تُخفّفُ علينا معنويًا الشعورَ بغلاءِ اللحوم البيضاء والحمراء ولا تُصابُ “بأنفلونزا” كما يحدث لطيورنا وخنازيرِهم، ونحتاجُ كذلك للخُضار ليُشعرنا بأنّ الطريقَ ما يزال أخضر واليوم قد يكونَ في مجمله أخضر والبُساط أخضر والنّفس خضراء، ونحتاج لتشكيل موائد من الخُضار لنثبِتَ لمن يتّهمنا بالاستبداد في الرأي وإقصاء الآخر “الديكتاتوريّة” بأنّنا نسمحُ للخضروات جميعها أن تُشارك في إشباعِ أنظارنا وبطونِنا، كيف لا ونحنُ نُسمّي عدَمَ النزاهة في مرض “الواسطة” باسمٍ خُضري هو “الكوسا”.
وفي الوقتِ الذي تصلُح فيه أراضينا لزراعة ثلثي أنواع الخُضار في العالم نستوردُ نحنُ وليسَ غيرنا من العالم الغربيّ ثلثا احتياجنا السّنوي من الخُضار ليس للحاجة بل لأنّ خُضارِهم أوروبّية المنشأ تُناسبُ عُطورنا الأوروبية كذلك لنصبحَ الآن نفضّلُ “الفلفل الذي يحمل ألوان الطّيف وهو قادمٌ من دولٍ غربيّة” ولمّا وصلَ إلينا بهَرَ أعيننا وأَنسانا خُضارًا مُشكّلًا هي عادتنا وعادةُ أمّهاتنا منذُ سنين، ولمْ يبقَ من تاريخ الخُضار في فلسفتنا وثقافتنا سوى تراقصَ الفاتنات في الملاهي الليلية ومناسبات الزّواج على أغنية “الخُضار” التي غنّاها “أحمد آدم” رأفةً منه على الخُضار لما رأى كثرةِ أغاني الفاكهة فجنَحَ للتغيير والتجديد في ثقافة الأغنية العربيّة، وصدَقَ “عادل إمام” حين قال: ”القَرْعِ لَمّا استوى قالْ لِلخيارْ يا لُوبيا”.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست