المشافي الخيرية .. حياة وعمار ديار
الكثير منا يعتبر أن إعطاء شيء عطب أو بالٍ لديه لشخص آخر تبرع، والبعض الآخر بدعوى الخير يستغل عطاء الآخرين لتحقيق أغراض شخصية، لذلك عندما نسمع مصطلح “عمل خيري” فأول تصور يظهر لدينا هو عدم الكفاءة أوالكذب، ولكن إذا ذهبت إلى مشفى خيري قائم على التبرعات، فلن تستطيع بعدها الذهاب إلى مشفى حكومي أو حتى استثماري “خاص” ليس بسبب البخل على النفس وإنما لإكرامها.
خلقت لدينا صورة نمطية عن المشافي أنها المكان الأساسي للشفاء من كافة الأمراض، سواء النفسية أو الجسدية، نمكث فيها للحصول على رعاية لن نستطيع الحصول عليها خارجها، وأن الأطباء هم الوسيلة التي أرسلها الله لنا لكشف هذا البلاء أو المرض، والممرضات والممرضون هم ملائكة الرحمة الذين يسهرون على راحتنا.
لكن إذا ذهبت إلى أغلب المشافي الحكومية الآن، سترى أن هذه الصورة قد شوهت وتحول كل ما فيها إلى الضد. لم تعد المشافي مكانًا للشفاء بل أصبحت قبورًا بكل ما فيها من حساب وعذاب، ولا وجود للنعيم بها حتى وإن أجبت على سؤال الملائكة. و لهذا العقاب صورٌ عدة، فبدلًا من الثعبان الأقرع سترى الأفاعي والقطط والكلاب ينتشرون في كل أرجاء المشفى، وإذا استطعت الحصول على فراش ربما تجدهم بجوارك، وحتى داخل الرعاية المركزة – إن جاز أن يطلق عليها ذلك الاسم – وهي عبارة عن غرفة فارغة من أي شيء، إلا المرضى الذين يلجأون لشرفتها بسبب التكدس. وإن كنت تؤمن أن النظافة من الإيمان فلن ترَ بها مثقال ذرة من إيمان بل ما ستراه قد يصل مرحلة الكفر.
ونسي الأطباء أنهم يعالجون وأن الله هوالشافي فأصبح بعضهم يشعر وكأنه المسيح، يبرئ الأَكْمه والأَبرص وربما يخرج الموتى، ونسي أن ذلك بإذن الله، لا يمثل له المريض أي شيء سوى أنه حالة يعتمد اهتمامه بها على مزاجه الشخصي، ويتعامل معه وذويه بفوقية لا تدري منها يحتقر من؟ المرض أم المريض؟
واكتشفت ملائكة الرحمة أنها لا تجدي نفعًا وأن الموت أكثر ربحًا فغيروا أنشطتهم وأصبحوا “ملائكة للموت”. فإذا أنّ المريض من شدة الألم، أو طلب شيئًا من إحداهن تراها تنظر إليه نظرة غضب لتواكله المستمر عليها! وتذهب إليه مستنكرة متأففة إما لتعنيفه وإسكاته، أو لتلبية طلبه إذا كانت قد حصلت على مقابل لذلك.
فيأبى بعضهم أن يجتمع عليه ألم الذل والمرض فيقرر الذهاب إلى مشفى استثماري ليجد أن أكثرهم لا يؤمنون بغير الربح فيها ربًا. يتعاملون مع المرضى وكأنهم صفقات، وتبدأ مضخة الأموال في العمل منذ الدقيقة الأولى من وصول المريض إلى المشفى وحتى آخر ثانية من وجوده فيها، وتتوقف درجة الاهتمام به على المبلغ الذي يدفعه، والأموال التي يعطيها للعاملين، بدءًا من عمال النظافة مرورًا بالأمن والممرضات وصولًا للأطباء، ولا يتم قبول أي مريض إلا بعد دفع المبلغ المطلوب مهما بلغت حالته من سوء، ولا فرق لديهم إن كان يملك ثراء الدنيا كله أو لا يملك منه إلا قوت يومه، إما الدفع أو الموت.
ويبرر كل هذا المزيج الشائن بسوء الأحوال المعيشية، وقلة المرتبات، وكثرة المسؤوليات، لذلك إن لم يحصلوا على ما يسمونها بالحسنة اليومية “الرشوة” أو يدخروا مجهودهم لاستثماره في وظيفة أخرى فلن يستطيعوا العيش عيشة كريمة.
في الجهة الأخرى توجد المشافي الخيرية التي عندما تراها ستعود الصورة إلى أصلية وضعها رويدًا رويدًا، فعندما يدخلها المريض تقابله وجوهٌ مسفرة ضاحكةٌ مستبشرة مرحبين به، ترى في حسن معاملتهم للمرضى رقيًا يشعر معه السقيم بآدمية تجعله صحيحًا، على الأقل نفسيًا، توجد سلاسة فى إجراءات الدخول والخروج دون إجهاد للمريض مستوعبين أن له من حمل المرض ما يكفيه، بها نظامًا مرتبًا للكشف والعلاج يضمن لمريض الحصول على أعلى رعاية طبية، كل ما يقوم به المريض هو إعلامهم بقدومه ثم ينتظر دوره مطمئنًا وواثقًا من عدم وجود أي تميز لشخص على حساب الآخر، ولا يتعاملون مع العلاج على أنه مجرد عقاقير تبتلع أو محاليل تعلق وإنما هو مناخ عام من الراحة والسكينة والتحفيز المستمر للمريض بأنه أقوى من المرض، وخلق زوايا أخرى يرى المريض من خلالها جانبًا من القوة والرضا والصبر ربما ما كان يدري أنه يملكه، وتحت شعار النظافة من الإيمان، يوجد بها من النظافة ما يجعل المسؤولين عنها من أولياء الله الصالحين. هذه المشافي يذهب إليها الميسور قبل المعدم، لما يجد فيها من اهتمام به واحترامًا لإنسانيته، وبعضهم يتبرع لها بالمال.
هنا آتتني بعض علامات الاستفام، ما الذي يدفع ممرضة تعمل في مشفى خيري إذا عُرض عليها مالًا ربما كانت في حاجة إليه أن ترفضه، مطالبة استبداله بدعوة لها من المريض إلى الله. في حين أن هناك أخرى تعمل في مشفى استثماري كبير وتحصل على راتب يساوي ثلاثة أضعاف راتبها قد تقبله، ومن المحتمل إن لم تعطها إياه طلبته هي؟ وما الذي يجعل طبيبًا يتقاضى راتبًا رمزيًا أن يهتم بالصحة النفسية والجسدية لمرضاه، وهناك آخر ينال راتبه بالدولار لا يكترث لمرضاه بل لم يرهم إلا مرة أو مرتين على الأكثر؟ ما الفرق الذي يميز هؤلاء عن أولئك؟ أليس لديهم مسؤوليات أيضًا؟ ألم تحط بهم تلك الظروف الحياتية السيئة؟
لابد أنه توجد لديهم مسؤوليات ومشكلات، وربما لا تكفيهم رواتبهم، لكنهم أيضًا يملكون ضميرًا، يوجد لديهم قرار بأنهم ليسوا بالضرورة سيئين لأن الظروف المحيطة بهم سيئة، لديهم من الوعي والإنسانية ما يقدرون به مسؤولية حياة المرضى.
المرض سنة الله في خلقه لا بد من وجوده حتى يعلمون قيمة الصحة، ووسيلة من وسائل الله لتنقية الخلق من المعاصي وردعهم عنها، لكن إذا كان هناك اختيار فلا تختر إلا الذي يوجد له مشفى خيري، عافانا الله وإياكم من سائر الأمراض.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست