العبادي بين الدولة المدنية والبراءة من أم كلثوم
المهانة التي لحقت بالنازحين في الخيام وطبيعة الحياة للفارين من العراق بسبب النزاعات المسلحة والاستهداف الطائفي والعرقي لم تكن ضمن توقعاتهم أو خياراتهم، أو من الأخطاء التي يندم عليها مرتكبوها بعد خساراتهم أو سقوطهم في نتائج تصرفاتهم وخيباتهم. المهانة المقصودة ليست من أسرار العوائل، إنما يراد لها أن تندرج ضمن توصيفات فشل النظام السياسي القائم على جريمة الاستيلاء على السلطة حتى من دون انقلاب عسكري أو نجاح تمرد دموي، كل ذلك ربما يكون تقليديا في عالمنا الثالث.
لكن أن تأتي سلطة بإرادة احتلال خارجي لدولة ذات سيادة وعضو في الأمم المتحدة ولها كيان فاعل ومؤثر في محيطها والعالم، وتسعى هذه السلطة لإقناع أكثر من 35 مليون مواطن بأنها تجربة وطنية بنظام ديمقراطي، فتلك مهانة متعمدة وصريحة ومرئية تحاول حكومات وأنظمة طالما كانت قمعية ومستبدة وفاشلة تمريرها مع مجازرها وتخلفها، بخطابات ساذجة وهابطة لأن الوقائع تحمل من الإجابات ما يشرح أسباب الصمت والقبول لعدم وجود ولو نسبة ضئيلة من الاختيار.
عودة 41 بالمئة من النازحين إلى مدنهم ولا نقول محل سكناهم ماذا تعني إذا كانت البيوت إما مهدمة وإما تحت أنقاضها الجثث وإما العبوات غير المنفجرة، وفي حالة تجهيز ولو غرفة واحدة في البيت فالمخاوف من تداعي البناء تظل هاجسا للموت يعيد تكرار مأساة المواجهات العسكرية، ثم ماذا عن الماء والكهرباء والمستلزمات الأساسية لإدامة البقاء من طعام وحاجات إنسانية.
أرقام انتخابية، هكذا تتعامل مجموعة التحالفات والمرشحين مع تراجيديا النازحين، وما بين رافض لموعد الانتخابات وموافق عليه، ثمة مصائر بشرية تتحرك في القوائم لضمان أصواتها في صناديق الموت التي لا تنجب سوى ولادات مشوهة لأحزاب طائفية وميليشياوية تابعة للمشروع الإيراني الذي تحول إلى عراب للاحتلال الأميركي، ولا تنفع معه كل أدوات ومنتجات التجميل في مفوضية الانتخابات أو التوافقات على القانون الانتخابي أو كل مفردات الدبلوماسية لبناء وطن للجميع يتجاوز الاعترافات الجماعية لقادة عملية الاحتلال السياسية بفشلهم في ماضيهم بإدارة العراق في أدق فترة تحولات تاريخية تم استثمارها في السرقات والانتقام الممنهج من الشعب العراقي، وفرض الفصل الطائفي العنصري بين أبناء المجتمع الواحد المعروف بتعايشه على مر القرون، بل إن العراق كان من بين الدول الأكثر تسامحا بما يخص الأديان والقوميات وكان ملاذا لهجرات نوعية من محيطه مازالت أعداد منها تمثل بعضا من هوية بلاد الرافدين.
أخبار متداولة عن إعادة قسرية من مخيمات متناثرة في أطراف المدن المنكوبة بالإرهاب المتقابل لأغراض تدعيم أرقام وزارة الهجرة والمهجرين والمنظمات المعنية، بما يعزز تطمينات إجراء الانتخابات في موعدها، أو يساعد في ارتفاع مناسيب التصويت للشخصيات المتنفذة في المحافظات كمنجز يحسب لها.
لكن ماذا عن نسبة من يتوجه إلى المخيمات حتى الآن، أي العودة العكسية من مناطق السكن إلى أماكن الإيواء لاستحالة العيش دون خدمات وضرورات والأهم لعدم توفر العمل، فنسبة البطالة تقترب من 100 بالمئة للأسر التي فقدت معيلها، أو لغياب صرف الرواتب لقطاعات واسعة من الموظفين السابقين بحكم الإجراءات والتدقيق والروتين وانعدام التنسيق ولقلة الكوادر، وماذا عن العاطلين الذين كانوا يعتمدون على أجورهم اليومية بمزاولة أعمال حرة بسيطة، أو لديهم فرصة عمل داخل بيوتهم القديمة التي تحولت إلى ركام.
بلا طعام لا يحيا الإنسان بالبطاقة الإلكترونية للانتخاب، ولا حتى بالإصبع الملوث بالحبر البنفسجي الذي ساهم في التخريب وإدامته بسلسلة من الانتخابات التي لم يجن منها العراقيون سوى الإصرار على تمرير قوانين الميليشيات وسيادة حزب الدعوة الشهير بعمالته للنظام الإيراني وتوجهاته الطائفية والمذهبية في العراق والمنطقة.
الرايات الطائفية في الموصل، والاستيلاء على أملاك المواطنين المطلوبة لقاسم سليماني وفيلقه أو تحت تبريرات المقرات أو الأجهزة الأمنية للحشد إن كان طائفيا أو عشائريا، لم تساهم في إقناع النازحين في المخيمات بأهمية صوتهم الانتخابي لأنهم على دراية بأن أصواتهم تذروها الرياح كما تفعل مع خيامهم وكراماتهم واشتراطاتهم الإنسانية أو ما تبقى منها.
الكتل السياسية والأحزاب والتحالفات هي في الحقيقة فضيحة محاصرة داخل سياج الانتخابات، أي إنها مجموعة مقيدة بمصالحها أو على الأقل بتجربتها الديمقراطية البائسة في سنوات الاحتلاليْن الأميركي والإيراني؛ ومن هو خارج هذا السياج هو الشعب العراقي. بهذه المعادلة تصبح المواقف بلا غموض وأيضا بلا مهانة الاتكال على احتمال صيانة العقل السياسي على تناقضاته في المرحلة الشاقة السابقة.
في لقاء رئيس وزراء العراق على هامش قمة منتدى دافوس الاقتصادي، وصف حيدر العبادي نفسه ومنجزاته بالشجرة المثمرة التي دائما ترمى بحجر، وفي ذات الوقت وصف إجراء حزب الدعوة بعدم النزول باسمه الصريح في قائمة انتخابية والتوجه بدلا من ذلك بعنوان مختلف بقائمتين واحدة لنوري المالكي والأخرى لحيدر العبادي، بالحل الحضاري.
هذا الحل يمثل فوزا مسبقا أولا للحزب، وثانيا للشخصيات المتناحرة على السلطة كما جاء في حديث العبادي، وهو بمعنى آخر المنافسة بين من نفذ احتلال داعش للموصل والمحافظات الأخرى ونعني به نوري المالكي الذي حظي بمكافأة النظام الإيراني على إنجازه في تدمير البقية الباقية من العراق؛ وبين من أعاد تحريرها من تنظيم داعش ونعني به حيدر العبادي الذي يحظى أيضا بالمكافأة على تنفيذه الصفحة الثانية من المشروع الإيراني في استمرار حكم العراق كوسيط انتقالي لمرحلة الصراع بين أميركا وإيران الذي يقترب من تداعيات الشتيمة لعقولنا التي تبدو في مرحلة مقاومة الاحتضار من شدة التناقضات ورص الجثث البريئة في العـراق أو في سوريا وعلى امتداد أمتنا العربية. العبادي يترجم توجهاته بالحط من قدرة القوات النظامية على القتال كتبرير لزج قوات الحشد الميليشياوي إلى جانب الجيش لضخ المعنويات في صفوفه، ثم يتدارك انضباط الحشد في القوانين العسكرية لأنهم متطوعون لغايات وطنية، وهو أدرى بأن قواعد الحشد تقوم على فتوى المرجعية الدينية وحماسة قادة الميليشيات العقائدية كمعادل لفكر داعش القتالي وأسلوبه في ارتكاب الانتهاكات والخروقات التي تحولت إلى لازمة انتقام بيد حملة السلاح الذين لا تنطبق عليهم مقولة حملة السلاح خارج القانون.
ما حصل في ليبيا من إعدامات لمعتقلين من ميليشيات أخرى يتكرر في العراق كمنهج انتقام لا تحاسب عليه الدولة أو المجتمع الدولي، لأن الفوضى تضرب عرض الحائط بكل القيم والأعراف.
في العراق عوائل بريئة حاصرتها ميليشيا يقودها شخص من الحشد وبهوية صريحة وموثقة، لكنه يفلت من العقاب والحساب لأجندات متباينة، بعضها يتعلق حتما بالرضا تجاه هذه الممارسات من قبل صناع السياسة في حفلة تشف بجرائم متبادلة رغم أن القتلى والضحايا في كل الحالات من الأبرياء الذين لا ذنب لهم في سياسة التفريط بالأمن والأرض.
يقول العبادي إن أكبر فساد هو صرف الأموال على الحروب، وكأنه ينطق بالحق مع المتظاهرين في انتفاضة الشعب الإيراني ضد الدكتاتورية الفاشية لملالي إيران، بل وضد حزبه حزب الدعوة بقيادة نوري المالكي والذي تبرأ الطرفان من اسمه الصريح لأهداف دكتاتورية أكبر من نزعتهما الحزبية الطائفية.
اختتم العبادي حديثه بالبراءة أيضا من الاستماع لأي أغنية حتى ولو كانت لأم كلثوم واستثنى أغنية واحدة دينية استمع إليها بالصدفة، رغم أنه كان طوال اللقاء يروج للدولة العابرة للمحاصصة الطائفية وبناء الدولة المدنية الحديثة. أترك ذلك لشعب تغنت به أم كلثوم يوم كانت بغداد قلعة للعروبة.
كاتب عراقي*